انتهت المحادثات التي رعتها الدوحة بين فريقي التفاوض الأميركي والإيراني، لإحياء الاتفاق النووي، إلى الفشل، لأن الولايات المتحدة لم توافق على تحرير العائدات الإيرانية من الرقابة المتعلقة بالمعاهدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب.
وحيث إن واشنطن تتمسك بإبقاء الحرس الثوري الإيراني ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، فإن هذه المعاهدة تضع قيودا على تمويل شركاته التي تجعل منه ثاني أكبر مؤسسة اقتصادية في إيران بعد شركة النفط.
والحديث عن البدائل والخيارات، بعد هذا الفشل، عاد ليتجدد في واشنطن وتل أبيب ودول المنطقة الأخرى المعنية بالأزمة مع إيران.
ومن المنتظر أن يحتل الملف الإيراني مكانة مركزية في قمة الخليج + 3، التي تضم إضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي مصر والعراق والأردن، والتي يحضرها الرئيس الأميركي جو بايدن خلال أسبوعين. والحديث عن البدائل والخيارات سوف يفرض نفسه على الجميع.
بالنسبة إلى دول المنطقة، الحرب ليست على جدول الأعمال سواء تمت العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أم لم تتم
وبوجود العراق في الخزانة الخلفية لإيران، فإن دفعها إلى القبول بأي قيود على عائداتها من النفط أو أموالها المحتجزة في المصارف الغربية، ثبت أنه جهد لا يجدي نفعا.
وتزيد عائدات إيران من “التجارة” مع العراق عن 18 مليار دولار سنويا، من الناحية الرسمية، إلا أنها تبلغ أكثر من ضعف هذا الرقم على أرض الواقع، وذلك بفضل الشركات التابعة للحرس الثوري التي تحصل على عقود تجارية وعقود إنشاءات، بعضها وهمي وبعضها الآخر مبالغ في تكاليفه. وهو ما يعني أن إيران ليست بأمس الحاجة إلى تصدير النفط، طالما أنها تحصل، نقدا ومن دون قيود ومجانا، على ما يعادل تصدير نحو مليون برميل من النفط يوميا.
وفي الواقع فإن الأموال التي وفرها العراق كانت هي التي أبطلت مفعول العقوبات ضد إيران، وشجعتها على المزيد من التصعيد في خرقها لبرنامجيها النووي والصاروخي، ووفرت التمويل للميليشيات التابعة لها في اليمن ولبنان وسوريا.
ومن الملفت أن الولايات المتحدة كانت تعرف كل ذلك، بأدق التفاصيل. كما تعرف من هم المسؤولون العراقيون الذين وقفوا، ولا يزالون يقفون، وراء تمويل إيران. وتعمدت واشنطن ألا تفعل شيئا، وبقي أولئك المسؤولون يتصرفون كقوة قادرة على فرض نوع آخر من الأمر الواقع في ما يتعلق بالتصدي للعقوبات المفروضة على إيران، من أجل إفراغها من محتواها كأداة من أدوات الضغط.
ومع النهاية التي انتهت إليها التطورات السياسية في العراق، حيث انتهت السلطة المطلقة إلى أيدي الجماعات الموالية لإيران، فإن خيارات العقوبات تسير في طريق ثابت من الفشل المتكرر.
ويرى بعض المراقبين أن هذه النهاية صُممت خصيصا من جانب إيران مباشرة بعد الإعلان عن توقف محادثات فيينا قبل نحو ثلاثة أشهر. فإيران أدركت منذ ذلك الوقت، أنها لن تحصل على كل ما تريد، الأمر الذي دفعها إلى إحكام قبضتها على العراق.
الإدارة الأميركية لا تزال عاجزة عن تقديم التنازلات التي تطلبها إيران، ليس لأنها لا ترغب بتقديمها، ولكن لأنها سوف تؤدي إلى تأليب أغلبية واسعة داخل الكونغرس ضدها
ولا تزال إدارة البيت الأبيض عاجزة عن تقديم التنازلات التي تطلبها إيران، ليس لأنها لا ترغب بتقديمها، ولكن لأنها سوف تؤدي إلى تأليب أغلبية واسعة داخل الكونغرس ضدها، بمن فيه الشيوخ والنواب الديمقراطيون. كما أن التنازلات سوف توفر ذخيرة حية للجمهوريين لكي يحققوا من خلالها فوزا كبيرا في الانتخابات النصفية المنتظرة في نوفمبر المقبل.
وكانت الولايات المتحدة، بصمتها عن تجارة الفساد الميليشياوية العراقية مع إيران، هي التي سمحت لطهران بأن تواصل مسارها التصعيدي، وأن تسعى إلى أن تفرض شروطا تتجاوز المعاهدات الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب. كما أن العلاقات التجارية القائمة على التبادل بين إيران والصين، وبينها وبين روسيا، فضلا عن عدد آخر من الدول، توفر لطهران بدائل ملموسة إضافية، إلا أن العراق يظل مصدر التمويل الرئيسي كلما تعلق الأمر بالأموال.
وهذه ثغرة مكشوفة بالنسبة إلى واشنطن، وهي تعمدت إبقاءها مفتوحة، لكي تبعث برسالة غزل صامتة لإيران تعرب عن الرغبة بالشراكة، وليس القطيعة.
كل ما كانت تسعى له إدارة الرئيس بايدن هو أن تضع قيودا على برنامجها النووي، وتحد من التهديدات التي تمارسها ميليشياتها. وقد انتهت محادثات الدوحة إلى الفشل، لكي ترد طهران على تلك الرسالة بأنها لن تقبل بأقل من إلغاء كافة أشكال العقوبات ضدها، وكل ما يترافق بها من أعمال رقابة مالية، والامتناع عن وضع أي قيود على برنامجها الصاروخي أو نشاطات ميليشياتها في المنطقة، في مقابل التراجع عما أضافته على برنامجها النووي من خروقات.
ولن يسمح قادة دول الخليج للرئيس بايدن بأن يخادعهم بشأن موقفه من إيران. فهم سوف يجعلونه يعرف أنهم يعرفون كيف نشأت الثغرة في العقوبات ضد إيران، ومن هو الطرف الذي ظل يرعاها بالصمت والكتمان.
كما أنهم لن ينخدعوا بأعذاره عن أهمية منع إيران من حيازة أسلحة نووية. فسواء حصلت إيران على هذه الأسلحة، أم لم تحصل، فإنها ليست هي القضية الأهم بالنسبة إليهم، وإنما أعمال زعزعة الاستقرار التي تعمدت واشنطن غض النظر عنها، وعادت إلى التفاوض مع إيران لأجل العودة إلى اتفاق العام 2015، من دون أن تأخذ هذه القضية بعين الاعتبار. وعندما قررت أن ترفع اسم الحوثي من قائمة المنظمات الإرهابية، فإن القادة الخليجيين يعرفون أن إدارة بايدن كانت تريد أن تبعث برسالة تصالح إلى طهران على حساب تحفظات ومخاوف حلفائها في المنطقة.
وبالنسبة إلى خيارات دول المنطقة، فإن الحرب ليست على جدول الأعمال، سواء تمت العودة إلى الاتفاق النووي أم لا. وهو ما يخفف إلى أدنى حد، من قيمة المسعى لأجل إنشاء تحالف دفاعي مشترك، على غرار حلف الناتو، يضم إسرائيل. وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
الأول، هو أن هذا التحالف، بحسب تجربة السنوات الثلاث السابقة، منذ قيام إيران بشن هجمات على خطوط الملاحة في الخليج، لن ينطوي على قيمة تجعله رادعا حقيقيا. والثاني، لأنه سوف يوفر لإيران المزيد من أسباب الدعاية السياسية المضادة. والثالث، لأن المقومات السياسية للحلف لم تكتمل. وهي لن تكتمل من دون انفراج في موضوع حل الدولتين.
أما البدائل الأميركية في مواجهة التعنت الإيراني فهي لا تتعدى خيارين اثنين: الأول، التخلي عن مساعي العودة إلى الاتفاق النووي، إلى الحين الذي تنضج فيه ظروف أخرى. وفي هذا الشأن فإن وسائل الترويج الأميركية سوف تخفف من احتمالات حصول إيران على ما يحوّل عمليات التخصيب إلى أسلحة بالفعل. وذلك لكي يبقى الملعب هادئا. أما الثاني، فهو بقاء ثغرة التمويل العراقية لإيران، لكي تبقى رسائل الغزل أو التواطؤ قائمة مع إيران، إلى حين توفر الظروف المناسبة لتبادل العناق.
ما يقوله المراقبون في هذا الشأن، هو أن الرئيس بايدن لن يتمكن من خداع نظرائه العرب، وإنه سيخرج من القمة مكشوف الأبعاد، ولن يحصل على أكثر مما تستحقه الشراكة التقليدية بين الطرفين.
صحيفة العرب