الكل تقريبا يعترف للإيرانيين بقدرتهم الفائقة في التفاوض وأكثر ما يشار إليه هنا جلَدَهم المدهش في جلسات المباحثات والمساومات مع قدرة مثيرة للإعجاب على التمسّك بالموقف وثبات لا يمل من تكراره.
يعرف ذلك عادة بـ«دبلوماسية السجاّد» فيما وصفه مرة رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم بن جبر بـ«دبلوماسية الفستق». في الوصف الأول تُستحضر صورة نسج سجاد الحرير الإيراني وما يتطلبه من صبر لا ينفد ودقة لا مثيل لها تستغرقان أشهرا طويلة تجعل ثمن هذا السجاد باهظا لأنه ثمن معاناة ناسجيه.
أما الوصف الثاني فصاحبه لم يخف إعجابه في جلساته العديدة بالإيرانيين بكيفية تناولهم للفستق، ففي حين يشرع غيرهم في التهام سريع لحبات الفستق الإيراني الشهير بلهفة واضحة يأخذ الإيراني كامل وقته في اختيار الحبة المناسبة والتمتع بتقشيرها وتنظيفها بكثير من التأني وحتى الدلع حتى لا يلتهم أي حبة إلا وهو متأكد تماما من جودتها ومن أنها الأفضل.
ومن القصص الشهيرة على طول بال الإيرانيين وجلدهم أنه بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر- تشرين الثاني 1979 من قبل طلبة موالين للإمام الخميني سارع الدبلوماسيون الأمريكيون المذعورون إلى آلات فرم الأوراق فألقوا فيها بكل التقارير السياسية الخطيرة من أمنية وعسكرية وغيرها فما كان من الجهات المختصة سوى أن أخرجت هذه الأوراق الممزقة أشلاء متناثرة واستعانت بمن جلسوا أشهرا وهم يحاولون بسعة بال منقطعة النظير ترميمها وإعادتها حالتها الأولى ليتسنى الاطلاع على ما فيها.
مناسبة كل هذا الحديث هو الانسداد الحالي في مباحثات إيران النووية وما تبديه طهران من تمسك بمواقفها مقابل نفس ما تبديه واشنطن. وبعد الجولة الأخيرة من المباحثات الإيرانية الأمريكية غير المباشرة في الدوحة تكرّس أكثر تحميل طهران مسؤولية هذا الجمود مقابل ما تقوله هي من أن واشنطن تفتقر إلى «المبادرة السياسية» في المفاوضات النووية.
ثقة المفاوض الإيراني في نفسه وفي مواقفه مطلوبة ولكن المبالغة في ذلك قد تنقلب عليه وقد يشعر بالندم لأنه في لحظة من اللحظات لم يحسم أمره ولو ببعض التنازلات التي تهون مقابل المكاسب المرجوّة
وإذا كانت طهران تدعو واشنطن إلى «الاستفادة من هذه الفرصة الدبلوماسية»، فإن دول الاتحاد الأوروبي ترى العكس أي أن على طهران تحديدا عدم تفويت «الفرصة» المتاحة أمامها و«وقف التصعيد».
تبدو العقدة الحالية في المباحثات التي قد تستأنف مع جولة الرئيس بايدن القريبة إلى المنطقة في أنها تدور حول مسائل خارج جوهر الاتفاق النووي الموقّع عام 2015 إذ يبدو أن مفاوضات النمسا بين كل أطراف هذا الاتفاق توصلت إلى تفاهمات واضحة بشأن العودة إليه، لكن ما يقع الخوض فيه الآن هي مسائل من قبيل رفع العقوبات التي سلطتها إدارة دونالد ترامب على طهران بعد إلغائها الاتفاق وشطب «الحرس الثوري الايراني» من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية والتعهّد بعدم تنصّل أية إدارة أمريكية مقبلة من الاتفاق بعد العودة إليه.
وإذا كان من حق طهران المطالبة برفع العقوبات التي أعيدت وشُدّدت بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، فإن قضية «الحرس الثوري» تبدو غير ذي صلة مباشرة بما يجري الخوض فيه، فيما تتبدى غرابة دعوة التعهد بعدم انسحاب أي إدارة أمريكية من الاتفاق لأنه ينم عن جهل أو تجاهل للنظام السياسي الأمريكي ما دعا طهران إلى التراجع مؤخرا عبر القول إنها تقصد عدم تراجع بايدن وليس من يأتي من بعده مع أن الأمر لم يكن واضحا على هذا النحو.
قد يبدو السياق الدولي الحالي الأكثر ملاءمة لطهران حتى تنتهي سريعا من هذه المفاوضات إذ أن عودتها إلى سوق النفط والغاز في العالم، مع الأزمة الكبرى التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا، من شأنها أن تفتح لها آفاقا واسعة مع أوروبا بالخصوص فطهران أضاعت زهاء 20 مليار دولار كان يمكن أن تجنيها في الثلاثة أشهر الماضية لو أنها كانت تصدّر نفطها وغازها دون العراقيل والعقوبات القائمة حاليا.
لا أحد يمكن أن يلوم طهران على تمسكها بمواقفها التي تراها من صميم مصلحتها القومية ولكنها إن هي بالغت في ذلك، واستقوت بنوع من الخيلاء بسياسة الصبر المبالغ فيه فقد تخسر كل شيء. عض الأصابع المتواصل ما زال في انتظار من يصرخ أولا ولكنه قد يبدو عبثيا ولا قيمة له إن هو تواصل أكثر مما ينبغي، كما أن إجادة فن اللعب على حافة الهاوية لا يمنع بالضرورة من أن اللاعب الماهر قد لا ينجح أحيانا في تجنب زلة قدم غير محسوبة تسقطه هو في الهاوية عوض عدوّه. المفاوض الماهر هو من يعرف متى عليه أن يتشبث بـ(لا) ومتى يمكنه أن يرمي بـ(نعم).
ثقة المفاوض الإيراني في نفسه وفي مواقفه مطلوبة ولكن المبالغة في ذلك قد تنقلب عليه وقد يشعر بالندم لأنه في لحظة من اللحظات لم يحسم أمره ولو ببعض التنازلات التي تهون مقابل المكاسب المرجوّة. من يريد الكل أو لا شيء قد يخسر كل شيء، وهنا لا يفيد لا السجاد ولا الفستق!
محمد كريشان
القدس العربي