على الرغم من غرابة أن يتذكّر المرء الرئيس ريغان في أيام الرئيس بايدن، لأسبابٍ متعددة لا ضرورة لإيرادها هنا؛ إلّا أن ذلك يخطر في البال بقوة هذه الأيام. لم يعد هنالك جدار برلين يطوّق بوابة براندنبورغ، التي وقف في مواجهتها ريغان في يونيو/حزيران 1987، وقال «إذا كنت تسعى إلى التحرر، تعالَ إلى هذه البوابة. سيد غورباتشوف، افتح هذه البوابة. سيد غورباتشوف، اهدم هذا الجدار».
ولم يكن ذلك الخطاب ما أدّى إلى سقوط الجدار وانهيار الاتّحاد السوفييتي، بل سياسة التحدّي، وسباق القوة الذي استمرّ لعقد كامل، خصوصاً سباق التسلّح الذي أركع الاقتصاد السوفييتي، الذي كان يحمل عوامل ضعفه في ذاته، وأركع النخبة السياسية السائدة، التي كانت بدورها تحمل بذرة نهايتها في داخلها.
يدور في هذه الأيام دولاب جديد شبيه بذلك ومختلف عنه، مع وجود قيادة روسية يقف على رأسها فلاديمير بوتين، الذي يرى في نفسه إمكانية تكرار دور إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين الثانية وجوزيف ستالين. هو يرى في نفسه أيضاً القدرة على توتير أوضاع القارة الأوروبية بحربه على أوكرانيا ومحاولته تقطيع أوصالها، بعد فشله في ابتلاعها بمجملها. وكان قد أجرى «مناورة» تجريبية ناجحة في الشرق الأوسط على الساحل الشرقي للبحر المتوسّط بمغامرته عام 2015 في سوريا، ورأى حالة من العجز والامتناع عن المواجهة من الطرف الآخر، في ولاية أوباما ثمّ ترامب، كليهما. كانت الاستراتيجية الأمريكية في حالة تغيير درامية جذرية قبل ذلك، تنتقل إلى المواجهة في نطاق المحيط الهندي والهادئ، لتتمركز أمام التنين الصيني المتصاعد بهدوء ينذر بالعواصف. أثمر ذلك اتفاقية «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا، وأوحى بسياسات مستقبلية تبتعد عن الفضاء في أوروبا والشرق الأوسط، حتى استطاع بوتين تغيير ذلك الاتّجاه، أو تعديله على الأقل. سوف يستطيع حليفه أيضاً: خامنئي، تغيير الاتّجاه جذرياً في الشرق الأوسط، أو كاد يفعل!
يجري السباق في أوروبا على طريقة المباريات العشرية، التي تجمع الإنجاز في عشرة أشكال من مظاهر القوة والأداء. كانت الأرض الأوكرانية حقل ذلك السباق المباشر العنيف الأول، ولكنّ دورها تراجع قليلاً مع استنقاعها ودورانها في المنطقة الشرقية، بعد تقليص الطموح الروسي إلى حدود الدونباس. ظهرت أشكال أولية للعجز الروسي عن استمرار السباق، قد تتطوّر لاحقاً.. مع رفع مستوى تجهيز الأوكرانيين بالسلاح المتطور خطوة خطوة، بحيث يستمر الروس في المعركة ولا يخرجون منها حالياً، إلّا بعد إنهاكهم استراتيجياً. في خلفية ذلك الصراع هنالك العقوبات الغربية، التي تستطيع سحب دماء الاقتصاد الروسي تدريجياً أيضاً، والتي ستظهر نتائجها ونتائج سباق الحرب والتسلّح لا محالة لاحقاً، كما ظهرت في النصف الثاني للثمانينيات، مع إطلاق ريغان لمبادرة الدفاع الاستراتيجي، التي حملت الاسم الدرامي المثير «حرب النجوم»، وخُصّص لها مئات المليارات في الموازنات الدفاعية يومذاك، ما أسهم في رفع الاقتصاد الروسي للرايات البيضاء، وانتصار الاعتدال ومجيء غورباتشوف. توحي كلّ المظاهر أن سلطة روسيا اليوم أكثر ضعفاً وحماقة من السلطة السوفييتية يومذاك، التي لم يخطر في ذهنها الحديث عن استخدام السلاح النووي، أو التلويح بذلك. في حين فعل بوتين، قبل بدئه الحرب على أوكرانيا. وليس بوتين وحده، بل إن حوله من» المفكرين والفلاسفة والمستشارين» من هو أكثر حماقة منه، ويدفع باتّجاه المزيد من المغامرة. واللعب على حافة الهاوية نمط خاص لا تنتهي مواسمه، منذ بداية التاريخ البشري؛ إلّا أنّ لذلك حدوداً وأقداراً تشلّه في اللحظات المناسبة دائماً، وحتى الآن.
اللعب على حافة الهاوية نمط خاص لا تنتهي مواسمه، منذ بداية التاريخ البشري؛ إلّا أنّ لذلك حدوداً وأقداراً تشلّه في اللحظات المناسبة دائماً، وحتى الآن
سوف نضرب مثلين عن تطور عسكرة أوروبا في وجه روسيا: أولهما يتعلّق بألمانيا، العملاق الاقتصادي، الذي كان ممتنعاً منذ الحرب العالمية الأخيرة عن الإمعان في التسلّح، لم يستطع دونالد ترامب إقناع ميركل حين قال لها: «أنغيلا، ينبغي أن تدفعوا!»، واستطاع ذلك فلاديمير بوتين. كان لا بدّ من تعديل الدستور الألماني من أجل ذلك، بحيث يسمح بإنشاء صندوق مموّل بالديون لا يخضع لإمكانية «فرملة الديون»، وقد دعم الديمقراطيون المسيحيون ذلك التعديل بقوة، وتمكن البوندستاغ من التصويت بما يفوق أغلبية الثلثين المطلوبة للتعديل: 567 نائباً لصالح التعديل ضد 96، وامتنع 20 نائباً عن التصويت. سوف يضمن ذلك أن تكون ألمانيا أقوى قوة عسكرية في الاتّحاد الأوروبي خلال فترة من الزمن، بعد أن احتلت فرنسا ذلك الموقع طويلاً. والمثال الثاني والأحدث هو موافقة الناتو على دعوة فنلندا والسويد للانضمام إليه، والتغلّب على العقدة التركية ببساطة مفاجئة لكثيرين، بعد تمنّع واتهام للدولتين بدعم وإيواء حزب العمال الكردستاني- المصنف إرهابياً- وقوى ترى تركيا أنها محسوبة عليه، مع مطلب آخر يتوارى قليلاً قبل الأول عمداً، وهو طلب رفع فيتو تصدير السلاح إلى تركيا من قبل الدولتين. تمّ توقيع اتّفاق بين الدول الثلاث، تستجيب فيها الدولتان للطلبات التركية بلغة مرنة قد لا تؤذي أو تغيّر الواقع بطريقة درامية، وصوّت الناتو على دعوة الدولتين، التي ستتيح له استكمال استحكاماته أمام روسيا، من جهة بطرسبورغ أقصى الشمال الغربي. يتعلّق الانعطاف الدراماتيكي الثالث بالشرق الأوسط، بعد اتفاق «أوكوس» ثم تحوّلات الناتو. في شرقنا الأوسط هذا، الذي فرض وجوده وإحداثياته وأسبقيته على صفة «العالم العربي»، ثم «الشرق الأوسط وشمال افريقيا»، ليصبح وحده السائد بعد الحرائق التي اشتعلت فيه من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن. في هذا المشهد تنتصب إيران وحدها متّهماً بإثارة الفوضى والتوتّر، وتنعزل بأيديولوجيّتها وسلطتها الدينية التي تطلب معاً القداسة والثأر من اليهود والأمريكيين، وتعرّج بطريقها على السنة والعرب بشكل غير مباشر. بذلك استطاعت تحقيق ما عجزت عنه «الإمبريالية» بسطوتها لعقود خلت، وتكاد تجمع إسرائيل مع عديد الدول العربية في حلف علني، أو مختلط بتفاوت ما بين العلنية والسرية. احتلّت إيران في هذا العام المرتبة 14 بين جيوش العالم، ويكاد حرسها الثوري الخارج على القانون والدولة والحكومة، يكون جيشاً على الجيش وسلطة على السلطة، يرتبط مباشرة بالمرشد العام، ويخصص وقته واهتمامه كلّه لتصدير الثورة والنفوذ والدعوة والهيمنة، أيضاً معاً. هنالك 3000 صاروخ باليستي يصل مدى معظمها إلى تل أبيب، ولا يذكرون أنه بذلك يصل أيضاً إلى معظم عواصم العرب. لدى حزب الله حوالي 150000 قذيفة صاروخية وبعض الباليستية، مع مدخل إلى تكنولوجيا رفع دقة الإصابة.. إضافة إلى طائرات متنوعة من دون طيار. لدى الحوثيين مثلها، أقل أو أكثر، واستخدمتها بفعالية ضد السعودية والإمارات، وكادت تحدث أزمة دولية حين أصابت أرامكو بضربة مباشرة. ولدى حماس وأخواتها أيضاً وأيضاً، ولدى قوى معينة من «الحشد الشعبي» العراقي، وربّما من الميليشيات الشيعية الدولية التي تمّ حشدها حول نظام الأسد في سوريا. يبدو أيضاً أن الاتفاق النووي سوف يتعثّر، ليفتح طريق السلاح النووي أمام المرشد الأعلى، إضافة إلى ترسانته من أسلحة الدمار الشامل الأخرى. ليعود الشرق الأوسط بسرعة قياسية من دائرة الإهمال الأمريكية إلى دائرة الاهتمام، ويدفع إلى تراجع استراتيجي غير مسبوق. يحدث ذلك مع بحث في إمكانية بناء «ناتو أوسطي» يجمع بين إسرائيل ودول عربية أخرى، ربّما تتجمّع عوامل جديدة قادرة على ضم تركيا لاحقاً أيضاً إلى هذا المسار.
بين الدول الأعلى إنفاقاً في المجال العسكري لكلْ شخص من السكان في عام 2021 تقع قطر في المركز الأول ( 3955 دولار/ نسمة) ثم إسرائيل ثانياً (2769) فالولايات المتحدة، ثالثاً (2405) فالكويت رابعاً ( 2084) فالسعودية سادساً (1572) فعمان في المركز التاسع (1107). ولا يمكن قياس الإنفاق الفعلي لإيران، علماً بأنه يستغرق رفاهية سكانها، بل حاجاتها الأولية، ويأتي من طريق الدولة مباشرة، أو من صندوق المرشد الأعلى الذي يحتوي ويستثمر أكثر من 150 مليار دولار، رغم المجاعة. كأن العالم على حافّة الجنون وتحليل المحرّمات، بفعل بوتين وخامنئي وملحقاتهما هنا وهناك!
القدس العربي