في قرن من الزمن انقلب العالم على نفسه مرتين ودخل في حربين عالميتين حصدتا ما يقرب من تسعين مليون إنسان، وأُزيلت دول ودُمرت مجتمعات ومدن وشُردت شعوب وانتشر البغض والكراهية والحقد الذي استمر طويلاً حتى بعد توقف القتال. في كلتا الحربين كانت أوروبا هي مركز الانفجار أو عين العاصفة، فمن هذه القارة كانت شرارة الحرب الأولى في عام 1914 بعد اغتيال فرانز فرديناند، وريث عرش النمسا، في سراييفو وإعلان النمسا الحرب على صربيا والذي تلاه انقسام عمودي وتقاتل عالمي. والانفجار الثاني كان أوروبياً صرفاً أيضاً بعد نشوء الأنظمة الديكتاتورية واحتلال أدولف هتلر لبولندا عام 1939 الذي كان الشرارة التي أدت إلى انقسام عمودي مرة جديدة سرعان ما أصبح حرباً عالمية.
بعد مائة وثمانية أعوام من اندلاع الحرب العالمية الأولى، يبدو العالم كأنه يتجه سريعاً نحو انفجار ثالث مركزه أيضاً أوروبا التي يسميها البعض القارة العجوز. الشرارة هذه المرة كانت إقدام الجيش الروسي على شن هجوم واسع على أوكرانيا لأسباب متعددة قد نختلف أو نتفق على أحقيتها، إلا أنها بالنتيجة أعادت الانقسام العمودي الذي يتوسع يومياً وربما يندلع حرباً عالمية في ظل أزمة اقتصادية عالمية بدأت بتوقف النمو بسبب وباء «كورونا» ومن ثم تفاقم الوضع مع ازدياد نسب التضخم الذي نتج بشكلٍ رئيسي عن حرب أوكرانيا.
في اجتماع القمة للدول السبع الكبرى الذي انعقد في 26 يونيو (حزيران) الماضي في معسكر سابق للجيش الأميركي في مقاطعة بافاريا الألمانية والذي تلاه مباشرة اجتماع للحلف الأطلسي في العاصمة الإسبانية مدريد في 28 يونيو، بدا واضحاً مدى توسع الانقسام في العالم وانحداره نحو مواجهة عسكرية، وفي المؤتمر الصحافي للأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، بعد انتهاء اجتماع رؤساء الدول الأعضاء، صرح بقرار إضافة ما يزيد على 300 ألف جندي في حال تأهب قصوى، وأعلن عن زيادة في الميزانية العسكرية للحلف بـ2 في المائة حداً أدنى ليصل في نهاية 2022 إلى مبلغ 350 مليار دولار توزَّع على دول التحالف بنسب مختلفة. وأضاف ستولتنبرغ أن التنسيق بين جيوش التحالف التي سيتم تزويدها بأحدث الأسلحة المتطورة، وهو الأكثر تكثيفاً منذ الحرب الباردة. وعندما سأله مراسل «سكاي نيوز» عن كيفية العودة إلى طاولة المفاوضات بعد تصريحاته، أجاب ستولتنبرغ بأنه ليس هناك مجال للتفاوض بعدما أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تخطي كل الخطوط الحمر.
في المقابل صرح ديميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرجل الذي يحظى بثقة الرئيس الروسي بوتين، بأن بلاده لن تتردد في استعمال كل الوسائل المتاحة (أي النووية) إذا ما تعرضت شبه جزيرة القرم إلى محاولة اجتياح، كما هدد كلاً من السويد وفنلندا باستعمال صواريخ «إسكندر» إذا وافقتا على نشر شبكة صواريخ موجهة نحو روسيا وجيشها، ويبلغ وزن صاروخ «إسكندر» 3 أطنان وينطلق بسرعة تفوق سرعة الصوت. ولم تكتفِ روسيا بنشاطها الأوروبي – الشرق أوسطي بل بدأت تُجري هي وإيران والصين مناورات عسكرية في أميركا اللاتينية (الأنظمة المارقة) بقصد جلب الحرب إلى الفناء الخلفي لأميركا ولإظهار القوة ضد الولايات المتحدة.
وكانت مجلة «إيكونوميست» قد نشرت تقريراً حول العهد النووي الجديد الذي بدأ بعد حرب روسيا ضد أوكرانيا. وكان الرئيس بوتين، بعد أن مجّد الترسانة الذرية الروسية ووعد بقهر أوكرانيا، قد هدد الدول التي تميل إلى التدخل بعواقب «كتلك التي لم تروها في تاريخكم بأكمله». وحتى لو لم يستخدم القنبلة في أوكرانيا مطلقاً، فإن بوتين قد أربك بالفعل النظام النووي. فبعد تهديداته، حد حلف الناتو من الدعم الذي كان مستعداً لتقديمه. ويوم الاثنين الماضي انتشرت صورة الطفلة الناجية من قنبلة هيروشيما وهي تنقل 350 أوكرانياً إلى مكان آمن. حتى لو كان بوتين يخادع، فإن تهديداته تقوض الضمانات الأمنية الممنوحة للدول غير النووية.
قالت «إيكونوميست»: كان الخطر النووي يتزايد قبل الاجتياح. كوريا الشمالية لديها عشرات الرؤوس النووية. وحذرت الأمم المتحدة من إن إيران لديها ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع قنبلتها الأولى، وعلى الرغم من أن معاهدة البداية الجديدة التي ستحد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لروسيا وأميركا حتى عام 2026 لا تشمل أسلحة مثل الطوربيدات النووية. بدورها تعزز باكستان ترسانتها النووية فيما تقوم الصين بتحديث قواتها النووية، كما يقول البنتاغون، وتعمل على توسيعها.
في عام 1994 سلمت أوكرانيا الأسلحة النووية السوفياتية السابقة الموجودة على أراضيها مقابل تعهدات من روسيا وأميركا وبريطانيا بعدم مهاجمتها. لكن من خلال الاستيلاء على شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في مناطق دونباس في عام 2014، حنثت روسيا بهذا الوعد.
وهذا يعطي الدول الضعيفة سبباً إضافياً لتصبح نووية. وقد ترى إيران أنه في حين أن التخلي عن القنبلة لن يُكسبها أي أمان دائم، فإن امتلاكها الآن سيثير مشكلات أقل مما كانت عليه في الماضي. إذا اختبرت إيران قنبلة فكيف ستردّ الدول المجاورة؟
وبالتزامن مع الحرب الدائرة في أوكرانيا وقرع الطبول لتوسيعها، يقول خبير مصرفي في بريطانيا إن النظام المالي الغربي المرتبط عضوياً بالدولار الأميركي والذي سبق أن أعلن مجموعة عقوبات على أفراد ومؤسسات روسية، قرر التصعيد بفرض إجراءات قاسية ومتشددة ليس فقط على الدول الصديقة والمتحالفة مع روسيا بل الدول التي تلتزم الحياد في حرب أوكرانيا، فالرمادية ممنوعة ومن لم يكن ضد روسيا فهو ضد الدول التي تنضوي في النظام المالي هذا وستُتخذ بحقه إجراءات عقابية صارمة. وفي المقابل تسعى روسيا مع دول كبرى أخرى إلى أن تنشئ نظاماً رديفاً لا يكون الدولار من ضمنه، إضافةً إلى إجراءات أخرى مثل فرض بيع الغاز ومنتجات روسية أخرى بالروبل، إلا أن النظام الرأسمالي الذي في صلبه الدولار الأميركي لن يكون ممكناً الاستعاضة عنه في وقت قصير ويحتاج إلى سنوات، فثلثا تجارة العالم تتم بالعملة الأميركية وتغيير هذا الواقع لن يكون أمراً سهلاً.
ورغم قرع الطبول الذي يرافق العمليات العسكرية في أوكرانيا وكل الاصطفافات الدولية والتغيير الذي يحصل من انضمام دول كانت تاريخياً تلتزم الحياد مثل السويد وفنلندا واليوم أصبحت في الحلف الأطلسي، إلى تسليح ألمانيا التي مُنعت منه منذ عام 1945 بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وهي اليوم ترصد مائة مليار دولار في موازنتها للتسلح… يستبعد خبراء استراتيجيون غربيون أن تخرج العمليات العسكرية من حدود أوكرانيا لسبب بسيط وبدهيّ وهو أنه ليس من مصلحة روسيا ولا الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة والصين أن يحصل هذا، وعليه تبقى العلاقات الدولية كتلك التي سادت إبان الحرب الباردة، فيحصل صراع بين المعسكرات المتنافسة في الأقاليم التي توجد أو تسعى للوجود فيها تعزيزاً لمصالحها وتوسيعاً لمناطق نفوذها.
وفي هكذا وضع دولي، من الطبيعي أن تسعى الدول والقوى الإقليمية لاقتناص الفرص وكسب ما يمكن لتعزيز المصالح، ولعل إيران أوضح مثال على هذا. ففي محاولة إحياء محادثات الملف النووي والتي توقفت في فيينا بسبب وصولها إلى حائط مسدود وكذلك انسحاب روسيا منها، وفشل تلك غير المباشرة بين طهران وواشنطن في قطر، حيث كان الناطق باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، قد صرّح بأن المحادثات مع الولايات المتحدة ستركز على رفع العقوبات، مما سيؤدي حتماً إلى تعزيز مصالح جميع الأطراف المعنية. بالتالي رفع العقوبات مقابل توفير الغاز والنفط تعويضاً عن مصدر الطاقة الروسي. إلا أن متحدثاً باسم وزارة الخارجية الأميركية أعرب يوم الأربعاء الماضي عن خيبة أمل أميركية من تصرفات إيران بشأن الملف النووي وذلك لإعادة التركيز على موضوع المحادثات، وهو الملف النووي وليس الغاز والنفط.
إذن مع تجدد الحرب الباردة ستدخل منطقة الشرق الأوسط في صراع المحاور الكبرى من البوابة الإيرانية. ورغم محاولات لتقارب عربي – إيراني فإن الهوّة كبيرة ولها أبعاد إيرانية تاريخية وآيديولوجية لكي لا نقول عنصرية. لهذا من المرجح أن تقود إيران بواسطة أذرعها تحالفاً يضم إلى جانبها، لبنان «حزب الله»، وسوريا والعراق وأشلاء من اليمن، و«حماس»، وستسعى إلى تقارب مع روسيا والصين. مقابل هذا التحالف ستقوم المملكة العربية السعودية بتوطيد العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي والتقارب الوثيق مع مصر وتركيا، وما زيارات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان سوى مؤشر على هذا.
ولا يحتاج أي عاقل لكثير من التفكير لمعرفة ما ستؤول إليه نتائج الصراع بين المحورين، ففي مقابل المحور الإيراني الذي يسكنه الفقر والجوع والعوز والظلمة والانحلال المجتمعي والكذب والقتل والتنكيل، هناك محور ينفتح على حضارة العلم والثقافة والتعايش الإنساني والثقافي وتعزيز قدرات ورفاهية شعوبه، فهل هناك من شك في أن إيران وكل من ينضوي بإمرتها في جحيم كارثي مصيره الفشل والزوال؟
الشرق الاوسط