يجد الرئيس بايدن نفسه في أزمة وصراع حقيقي في قراره المضي قدماً في زيارته الأولى رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية فرضتها كما أوضحت في سابقة البراغماتية والواقعية السياسية بعيداً عن التغني بالمثل والقيم التي لا مكان لها في السياسة الواقعية التي تحكمها المصالح وليس القيم.
كتهديد السعودية حتى قبل تسلمه الرئاسة على خلفية مقتل جمال خاشقجي سجل حقوق الإنسان والحرب في اليمن والتهديد بوقف التعاون العسكري.
السؤال الأهم لماذا تغير موقف بايدن؟ وما هو مغزى وأهمية وتوقيت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأولى للشرق الأوسط، بزيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والسعودية من13-16 يوليو الجاري.
تعمد الرئيس بايدن في أكثر من مناسبة ولقاء إعلامي وخاصة في مؤتمره الصحافي في مدريد في ختام قمة حلف الناتو، تأكيده أن هدف زيارته للسعودية ليس للقاء الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بل للمشاركة في قمة إقليمية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن والعراق في السعودية.
ورداً على سؤال في المؤتمر الصحافي، إذا كان سيطلب من السعودية زيادة انتاج النفط لطرح كميات كبيرة من النفط في الأسواق لخفض سعر برميل النفط والأهم ثمن غالون البنزين في محطات الوقود في الولايات المتحدة لتهدئة سخط وغضب الأمريكيين المستائين من ارتفاع الأسعار-ما يساهم بتراجع الرضى عن أدائه وشعبيته لمستويات 38% هي الأدنى منذ بدء رئاسته قبل عام ونصف، أجاب-لا! لكن سأطلب من جميع الدول رفع انتاج النفط، لأن هذا في مصلحة الجميع.
ليرسل البيت الأبيض ماكروك المبعوث الأمريكي للسعودية ليحضر لزيارة بايدن ولقائه مع الملك سلمان وولي عهده والقمة الإقليمية!
زيارة الرئيس جو بايدن الأولى للشرق الأوسط- قد تشكل نقطة انتقال مهمة للعلاقة بين إدارة بايدن والحلفاء الخليجيين وخاصة المملكة العربية السعودية، إذا أُحسن استثمارها، لرسم خارطة طريق للعلاقات بين الطرفين فيما تبقى من رئاسة بايدن -لكنها تحتاج إلى مقاربة واقعية من الطرفين وطمأنة والتزامات تقترب من التزامات أمريكا تجاه الحلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية المشمولتين ضمن مظلة الولايات المتحدة النووية-وكذلك لتحالف شبيه بتحالف أمريكا مع أستراليا ونيوزيلندا-حيث للمفارقة تم دعوة الدول الأربع سالفة الذكر ضيوفاً على قمة الناتو الأسبوع الماضي في مدريد-لتستفز وتتحدى أمريكا وحلف الناتو الصين-بأن تلك الدول حلفاء مقربين من الغرب. ولكن هذا لم يحدث مع الحلفاء الخليجيين!
لذلك من الضروري أن تشكل زيارة الرئيس بايدن نقطة انطلاق رئيسية ليؤكد على أهمية ومحورية الشركاء الخليجيين الذين اثبتوا مصداقية كبيرة في الشراكة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن تقليل الرئيس بايدن من أهمية الزيارة للسعودية في غير مجد ومطمئن-لأن الجميع يعلم سبب الزيارة الرئيسي هو لإقناع السعودية والدول الخليجية زيادة انتاج النفط بما يخالف اتفاق مجموعة أوبك+. لكن سبب تقليل الرئيس بايدن من أهمية الزيارة في شق الطاقة-هو لإرضاء الجناح التقدمي في حزبه.
زيارة الرئيس جو بايدن الأولى للشرق الأوسط- قد تشكل نقطة انتقال مهمة للعلاقة بين إدارة بايدن والحلفاء الخليجيين وخاصة المملكة العربية السعودية، إذا أُحسن استثمارها
لفهم تفاصيل المشهد في العلاقات السعودية-الأمريكية التي مرت بصعود وهبوط وخلافات وتوافق على مدى ثمانية عقود منذ أيام الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية-علينا أن نفهم ونربط تلك العلاقة بمعادلة الطاقة مقابل الحماية.
رغم المحطات العديدة والملفتة خلال العقود الثلاثة الماضية منذ احتلال وتحرير دولة الكويت-والتراجع التدريجي لأهمية منطقة الخليج العربي في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة التي تضع منطقة شرق آسيا والصين وانتقال مركز الثقل الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي من منطقة المحيط الأطلسي وإمبراطوريتها والسيطرة على النظام العالمي لخمسة قرون، لينتقل مركز الثقل العالمي اليوم إلى منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء تمدد المارد الصيني بكل قواته، ومشاغبات روسيا بكل طموحها القيصري-وما نشهده في حرب روسيا على أوكرانيا هو ترجمة واقعية لتلك المخاوف-وهذا ما قد يحفّز الصين على التمرد وتكرار المشهد الروسي في أوكرانيا بحرب الصين على تايوان، الإقليم الصيني المتمرد-وإعادته لبيت الطاعة الصيني.
هذه المتغيرات تسببت بتراجع أهمية وأولوية منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة، رافق ذلك زيادة انتاج الطاقة الصخرية من نفط وغاز لتصبح أمريكا الدولة الأولى المنتجة للنفط في العالم. ولتبقى السعودية الدولة الأولى المصدرة للنفط في العالم. وذلك برغم تراجع واردات النفط الخليجي إلى الأسواق الأمريكية.
لكن أكرر أمريكا لن تنسحب من منطقة الخليج طالما بقي النفط عصب الصناعة في الشرق والغرب وعاملا بالغ التأثير على الاقتصاد العالمي برغم مزاحمة الطاقة البديلة وخاصة الكهرباء كمصدر بديل عن النفط والغاز. لهذا سنشاهد مزيدا من الانكفاء الأمريكي في السنوات القادمة، وهذا سيشجع دولا كبرى كالصين وروسيا وحتى الهند ودول إقليمية مؤثرة مثل إسرائيل وإيران وتركيا للتحرك لملء بعض الفراغ الاستراتيجي الذي تخلت عنه أمريكا طوعاً-دون أن يكون بمقدرة تلك الدول الكبرى والإقليمية ملئه أو تعويضه.
كما رسخ الانسحاب الأمريكي المرتبك من أفغانستان قبل عام-صورة نمطية واقعية سلبية للحليف الأمريكي بأنه حليف غير موثوق به في أوقات الأزمات ولا يمكن التعويل عليه للحماية! ما عمّق هوة أزمة الثقة بالحليف الأمريكي كضامن للأمن.
لهذا على بايدن عبء كبير في طمأنة الحلفاء-بالأدلة والمواقف والبراهين وليس بالتصريحات الرنانة البالية. وفي تقديم رؤية وخارطة طريق وطمأنة ورؤية حول عملية السلام وملف إيران النووي وحرب اليمن والحوثيين وأذرع إيران في المنطقة. وألا يمارس ضغوطاً غير مقبولة حول التطبيع مع إسرائيل والابتعاد عن سياسة المحاور وتحالفات هلامية تعوم وتُدخل إسرائيل في اصطفافات مع دول عربية مطبعة وغير مطبعة-لأنه لا يوجد إجماع وقبول بين الدول التحالف الهلامي، على مصدر الخطر والموقف من إسرائيل والتطبيع معها والموقف من إيران والاصطفاف ضدها. وإلا فإن زيارة الرئيس بايدن لن تحقق النقلة المطلوبة والمتأخرة للطرفين! ولن تتحقق معادلة رابح-رابح للطرفين. ما سيشجع دولا كبرى وإقليمية على اللعب في الفراغات ومحاولة ملء التراجع والانكفاء الأمريكي. ما قد يضر بمصالح الطرفين.
القدس العربي