تركيا لم تعد عضو الناتو المهادن

تركيا لم تعد عضو الناتو المهادن

أجّلت أنقرة منذ أسابيع عملية انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وهو ما أثار استياء الأعضاء الآخرين في الحلف، لكنها كشفت مدى تمرد تركيا على الناتو، فهي لم تعد العضو المهادن وإنما صارت تتحرك وفق ما تفرضه مصالحها الاستراتيجية، محاولة استخدام الحلف كمنتدى يمكنها من تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.

كاد المرء أن يسمع صوت البهجة في أنقرة عندما خالف رئيس البلاد رجب طيب أردوغان إجماع الناتو بإعلانه أنه لن يدعم العروض السويدية والفنلندية لعضوية الحلف، وبالنسبة إلى النخب السياسية التركية، لم يكن أردوغان رئيسًا عنيداً وصعبًا، بل كان زعيمًا تركيًا رفض مهادنة الأوروبيين.

وسأل أردوغان بعد أن أرسلت الدولتان مفاوضين إلى أنقرة لحثه على تغيير رأيه: هل هم قادمون إلى هنا لإقناعنا بتغيير رأينا؟ إذا كان الحال كذلك فعليهم ألّا يتعبوا أنفسهم.

وبدا أن السويد وفنلندا على استعداد لتقديم ضمانات كافية بشأن المسألتين اللتين كانت أنقرة قلقة بشأنهما، وذلك بعد أسابيع من المحادثات، وهما دعم المقاتلين الأكراد والقيود المفروضة على مبيعات الأسلحة، وفي صباح يوم الثلاثاء، وقع البلدان على بروتوكولات الانضمام وبدأت رسميا عملية التصديق.

في وقت الاضطرابات قد يؤدي خلق الانقسامات داخل الناتو إلى جني تركيا بعض المكاسب الاستراتيجية

وبالنسبة إلى أنصار أردوغان، اعتبر ذلك نجاحا على كافة الأصعدة، فبالنسبة إليهم لم يكن مهماً أن تركيا قد أظهرت عدم استعدادها لدعم التحالف في لحظة حرجة، ولا أن البعض كان يتساءل علناً عما إذا كان الوقت قد حان لإخراج تركيا من التحالف، حيث قالت صحيفة نيويورك تايمز “بالنسبة إلى منظمة حلف الناتو، فإن تركيا حليف معارض”. ولا شك أن الرئيس التركي لا يمانع في أن يكون الرجل الذي يغرد خارج السرب، ويبدو أنه يحب أن يكون مخالفاً للإجماع، ومع ذلك، فنادرًا ما يُطرح السؤال عن سبب معارضة تركيا للتحالف، وما إذا كانت تلك الخلافات تصب في مصلحة أردوغان.

وهناك أسباب قديمة وأخرى حالية لمعارضة تركيا للتحالف.

والسبب القديم هو أن حلف الناتو كان حتى لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا في خضم أزمة وجودية ولم يكن يعرف ماذا يمثله التحالف، وكان السبب الظاهري لتأسيس الحلف هو التهديد السوفييتي، وقد مضى على ذلك التهديد ردح طويل من الزمن، وكان التحالف متعثراً ومتخبطا، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الحلف “في حالة غيبوبة دائمة”، كما انتقده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب علناً.

وتفاخر ترامب في وقت سابق من هذا العام بأنه هدد بعدم الدفاع عن حلفاء الناتو من أي هجوم روسي في عام 2018، وهو ما يهدد في جوهره المادة الخامسة للدفاع الجماعي التي تدعم التحالف، ولدى الناتو أصدقاء من ذلك النوع، لكن لا يوجد لديه أعداء ذوو ملامح وضاحة.

وتستطيع تركيا بناء على ذلك تنفيذ أجندتها الخاصة، والتي بدت وكأنها في الأساس تختار معارك مع أعضاء الناتو الآخرين، فهي تتعارك مع اليونان على الجزر الواقعة في بحر إيجة، ومع الولايات المتحدة بشأن شرائها لأنظمة الدفاع الصاروخية روسية الصنع من طراز “إس – 400”.

ولم تكن هناك استراتيجية واضحة للتحالف بسبب عدم وجود عدو واضح، وبالتالي تمكنت تركيا من استخدام الحلف كمنتدى سياسي آخر يمكن من خلاله تحقيق أهدافها، ولا يمكن اتهام تركيا بتهديد أمن الحلف، لأنه لم يكن هناك عدو واحد، بل كان هناك العديد من التهديدات، ولم ينظر إلى تلك التهديدات دائمًا بنفس الطريقة من أعضاء الناتو، مما ساهم في الشعور بالانقسام والخروج عن المسار.

كل ذلك كان في السابق، ولكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وجد الناتو مرة أخرى شيئا من معنى لوجوده، حيث كانت هذه الأشهر القليلة الماضية مهمة لإحساس الحلف بكيانه، وهي تشابه تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي أو زمن ولادة الحلف نفسه، حيث أن هناك إحساسا متجددا بالهدف والتهديد والمهمة.

ومع ذلك، فإن تركيا الآن مختلفة عن السابق، حيث كانت الدولة التي انضمت إلى الحلف في عام 1952 حصنًا حيويًا للجانب الجنوبي للحلف، وكانت هي الأولى في مواجهة التهديد السوفييتي الافتراضي بفضل وجود أكبر جيش في أوروبا.

ولكن تركيا تغيرت، فلم تعد دولة ذات دخل متوسط ومتدنّ، وعليه ترسل جنودها للمشاركة في حرب دولة أخرى، وتفتخر بقدراتها الدفاعية وامتلاكها لتكنولوجيا الطائرات بدون طيار، والتي لديها القدرة على تغيير مسار الحروب، وتريد تركيا أن تحظى بالاحترام كعضو في التحالف، في الوقت الذي يتصارع فيه التحالف مع مستقبل جديد، وعليه فإن الخلاف ولد من الرغبة في أن تعتبر تركيا متساوية مع باقي الأعضاء وليس عضواً مهادناً.

فهل هذا الاضطراب يعطي تركيا المكانة التي ترغب بها؟ ذلك سؤال محير، ففي أوقات السلم، أو على الأقل الاستقرار الاستراتيجي، فإن الخيار الأفضل هو أن تكون عضوا في التحالف، ولكن في وقت الاضطرابات، قد يؤدي خلق الانقسامات إلى جني بعض المكاسب الاستراتيجية.

ويبدو أن تلك كانت هي حسابات أردوغان، فقد أدت حرب أوكرانيا إلى تحول مذهل وكبير في القارة الأوروبية، ومما يثير الدهشة أنه لم يتم تسليط الضوء على تلك التحولات بصورة كافية، وللمرة الأولى منذ عقود من الزمان تعيد ألمانيا تسليح نفسها، فتنشئ صندوقاً خاصاً بقيمة 100 مليار يورو لتطوير قواتها العسكرية، وصرح المستشار الألماني أولاف شولتس أمام البرلمان وهو يهتف “نحن بحاجة إلى الطائرات ونحتاج إلى سفن حربية ونحتاج إلى الجنود”، وربما أثار مشهد إعادة تسليح أكبر اقتصاد في أوروبا الخوف في القارة، لكن العالم تغير منذ عام 1945 أو حتى منذ عام 1952.

وبالنسبة إلى أردوغان، فهذا وقت العمل وليس وقت المهادنة، وتلك مجازفة جاءت عليه بالنفع إلى الآن، كما أن تلك المجازفة تناسب شخصيته الحاسمة، وإن لم تكن محسوبة دائمًا. لقد تعلم أردوغان من خبرته في شمال سوريا أن من يعمل بسرعة وبحسم هو من يرسم ملامح المشهد.

العرب