يعتبر المجتمع المدني أحد تجليات الممارسة الديمقراطية التي يفرزها مناخ التعددية والحرية داخل المجتمع، وهو ما تؤكده التجارب الغربية الرائدة في هذا الصدد.
وإذا كان المجتمع المدني بكل مكوناته قد ولد ولادة طبيعية في خضم التحولات التي شهدتها الدول الغربية، فإن الأمر يختلف عنه في المنطقة العربية التي ولد في بعض دولها ولادة قيصرية.
ظلت فعاليات المجتمع المدني مهمشة في العديد من دول المنطقة، ولم تتح لها إمكانية المساهمة في مواكبة السياسات العمومية والنقاشات المرتبطة بها، نتيجة للظروف السياسية الضاغطة ومناخ الحريات الهشّ، اللذين بسطا بظلالهما على واقع هذه الفعاليات على امتداد عدة عقود، ما كان له الأثر الكبير في تقزيم أدواره، وجعله شكلياً وغير قادر على القيام بمهامه وأدواره داخل المجتمع، في علاقته بالترافع والتأطير والتنشئة الاجتماعية والمساهمة في تحقيق التنمية داخل المجتمع.
ويواجه العمل النقابي في عدد من دول المنطقة مجموعة من الإكراهات، سواء على المستوى القانوني، المرتبط بصعوبة بلورة وتمرير معايير الشغل على المستوى الدولي أمام الضغوطات التي تمارسها منظمة التجارة العالمية في مواجهة منظمة العمل الدولية في هذا الشأن، وبخاصة فيما يتعلق بالحرية النقابية وحق الإضراب، أو المحلي من حيث استمرار العمل بقوانين وأنظمة تقليدية ومتجاوزة في هذا الشأن.
ومن جهة أخرى، أرخت أجواء الاستبداد في المنطقة العربية بظلالها القاتمة على أداء منظومتي التعليم والبحث العلمي، ذلك أن المركزية المفرطة في تدبير الشؤون العامة انعكست بشكل كبير على أدائهما داخل المجتمع، وهمشت إسهاماتهما المفترضة في تنوير المجتمع وتحقيق التنمية، عبر سياسات وتشريعات تهمّش منظومة التعليم، وتقلل من حدة التفاعل بين الجامعات ومراكز البحث العلمي من جهة ومحيطها المجتمعي من جهة أخرى.
لا ينتعش البحث العلمي البنّاء والإبداع الخلاق إلّا في مناخ تطبعه الحرية والديمقراطية، وتعتبر الدول العربية من بين أكثر الأقطار حاجة إلى تطوير البحث العلمي والمراهنة عليه في تنميتها، وذلك بالنظر إلى مجموعة من الاختلالات التي تعتور هذا القطاع الحيوي، فالاعتمادات المالية المرصودة له داخل هذه الدول لم تصل بعد إلى 1 بالمئة من الناتج الداخلي العام، وهي نسبة ضعيفة وتبتعد كثيراً عن المعدل العالمي المحددة ب 2.3 بالمئة، وتؤثر بشكل سلبي على البنيات التحية المرتبطة بهذا الشأن، حيث تظل في مجملها تقليدية وغير كافية.
لم تشهد فعاليات المجتمع المدني بعض الانتعاش في عدد من دول المنطقة، إلّا خلال السنوات الأخيرة، بعدما شهدت المنطقة وتحت وطأة التحولات الدولية الكبرى في علاقتها بانعكاسات العولمة وتنامي الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وظهور الكثير من النقابات وعدد من الجمعيات والمنظمات التي تُعنى بقضايا الحريات والحقوق وتمكين المرأة والبيئة والثقافة والمواطنة وغيرها من الاهتمامات، إضافة إلى التطور الحاصل في المشهد الإعلامي.
غير أن ظروف وشروط عمل هذه الهيئات لم تنضج بعد، سواء تعلق الأمر بشروط ومقومات ذاتية في علاقتها بالعمل الاحترافي والتخصصي المنتظم، أو في علاقة ذلك بعوامل موضوعية ترتبط بغياب الإمكانيات والبنيات الأساسية اللازمة للعمل. إضافة إلى طبيعة المجتمعات العربية التي لم تعتد بعد على التعاطي مع هذه الفعاليات في مقابل التمسك بقنوات تقليدية أخرى كالقبيلة والزاوية.
لا تخفى انعكاسات الممارسة الديمقراطية على صعود المجتمع المدني وتطور أدائه، كما أن المجتمع المدني بدوره هو أحد الأسس الذي تنبني عليها الديمقراطيات الحديثة، فهو يلعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة.
فقد لعبت هذه الفعاليات دوراً كبيراً ومحورياً في دعم التحول بعدد من بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ونستحضر في هذا الإطار المجهودات التي بذلتها النقابات والتنظيمات النقابية ورجال الدين وأرباب المقاولات والاتحادات المهنية والنخب المثقفة..
أما في المنطقة العربية، فيعاني المجتمع المدني «الوليد» من مجموعة من الصعوبات والاختلالات، في علاقة ذلك بطبيعة الإطار القانوني والسياسي الذي يحكم عملها، والثقافة السياسية التقليدية السائدة في المجتمعات العربية، إضافة إلى التضييق المالي، ثم سعي الكثير من الأنظمة في المنطقة على امتداد عقود مضت إلى خلق مجتمع مدني صوري موالٍ لها وموازٍ لفعاليات المجتمع المدني النابعة من عمق المجتمع.
كما يعاني الكثير من هذه الفعاليات من مشاكل ذاتية مرتبطة بضعف الاحترافية والديمقراطية والتشاركية في الأداء، ما يؤثر بالسلب على أدائها وفاعليتها.
إن الدول العربية وبإشكالاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، لا توفر الفضاء الذي يكفل تطور المجتمع المدني بالصورة التي شهدها الكثير من الدول الغربية. لكن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعرفها دول الحراك، إضافة إلى التحولات الدولية التي دعمت الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان، يمكن أن تسهم في توفير بيئة خصبة لتطور المجتمع المدني في المنطقة.
أسهم الحراك في انتعاش المجتمع المدني في عدد من الدول العربية، كإطار لترسيخ الممارسة الديمقراطية أفقياً وعمودياً، حيث تنامى الوعي بأهميته وحيويته، فقد أصبح حاضناً للأفكار المجددة والطامحة إلى التغيير، وأضحى فضاء للنقاش ولتداول الأفكار ومواكبة التحولات والسياسات العامة، وقناة للمرافعة والضغط.
ففي ليبيا، وفي ظل واقع سمته الارتباك والفراغ المؤسساتي، سعى الكثير من الشباب والنساء إلى إحداث العديد من الجمعيات والمنظمات المدنية، والانخراط في فعالياتها، وعياً منهم بأهميتها في ترسيخ ممارسة ديمقراطية تعزّز الحقوق والحريات، وبلورة تنشئة اجتماعية تقوم على قيم المواطنة وجعل المواطن في خدمة المجتمع.
وشهد المغرب تطوراً ملحوظاً في أداء وحضور المجتمع المدني قبل الحراك، غير أن أجواء هذا الأخير سمحت بتعزيز هذا الحضور أيضاً من خلال المدخل الدستوري الذي عزّز حضوره داخل المجتمع؛ عبر تطوير وظائفه التنموية وتعزيز مواكبته وإشراكه في إعداد وتقييم السياسات العمومية محلياً ووطنياً.
كما شهد المغرب في أعقاب الحراك حواراً وطنياً حول المجتمع المدني، شارك فيه مختلف الفعاليات المدنية، قادته الوزارة المكلفة بهذا الشأن؛ لتطوير أدائه وضمان فاعليته واحترافيته، وتنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة المرتبطة به على أحسن وجه.
د.إدريس لكريني
صحيفة الخليج