السّياسة الخارجيّة الإيرانيّة ومدى القابليّة للتّغيير!

السّياسة الخارجيّة الإيرانيّة ومدى القابليّة للتّغيير!

يبدو أن الساسة في العاصمة الإيرانية طهران، أصغوا باهتمام بالغ إلى كلمة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح “قمة الأمن والتنمية” في مدينة جدة أخيراً، والتي قال فيها إن “إيران دولة جارة تربطها بالمملكة علاقات دينية وثقافية”، داعياً إياها إلى أن تكون جزءاً من “رؤية” المنطقة، لضمان أمن الخليج واستقراره، ومشدداً على أهمية “التعاون مع دول المنطقة ووكالة الطاقة الذرية، من خلال الالتزام بالمادة الشرعية الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والوفاء بالتزاماتها”.

الأمير محمد بن سلمان، من خلال كلمته، ينطلق من منطق “رجل الدولة” الذي يعي أن ازدهار السعودية وتنميتها، وأيضاً استقرار الخليج ورفاهية شعوبه، لا يمكن أن تتحقق إذا لم يتم تصفير المشكلات وحل الملفات السياسية والأمنية العالقة، ويسود التعاون والتواصل بين جميع العواصم في الإقليم.
الرياض لا تطرح رؤيتها للسلام من منطق الضعف أو الانكفاء الداخلي، بل وفق منهجية تعي أن استقرار إيران واحترامها دول المنطقة، هو أمر في مصلحة الجميع، لأن استمرار الخلافات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي سيزيد من منسوب التوترات الطائفية والمليشيوية والأمنية؛ وسيطلق يد المجموعات المسلحة السنية والشيعية لتعيث خراباً في الإقليم الذي عانى الكثير بسبب وجود هذه الخلايا والتنظيمات الأصولية التي هدمت الدولة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا؛ وقام بعضها بعمليات “إرهابية” في السعودية، واستهدفت بالطائرات المسيرة منشآت حيوية واقتصادية في السعودية والإمارات؛ وكل هذه الممارسات العنيفة تضر باستقرار الإقليم وتدفعه إلى المواجهة المباشرة، وهي أمرٌ بالغ التعقيد وعواقبه وخيمة، وهو ما لا تريده الرياض.
حتى الآن، يبدو أن ثمة وجهة نظر وازنة في إيران تريد أن تخفف من حدة خلافات الجمهورية الإسلامية مع جيرانها، وتحديداً مع السعودية، لأن أصحابها يعرفون مدى قوة الرياض وتأثيرها الكبير عربياً ودولياً. وعدد من الساسة، ومن ضمنهم الرئيس السابق حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، ممتعضون من السياسات العدائية تجاه المملكة، واعتبروا مهاجمة المقار الدبلوماسية السعودية في إيران، في كانون الثاني (يناير) 2016، خطأ جسيماً.
رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسة الخارجية في إيران كمال خرازي، في حوار مع قناة “الجزيرة”، قال إن “طهران مستعدة للحوار وإعادة العلاقات مع الرياض إلى طبيعتها”، مضيفاً: “إيران والسعودية دولتان إقليميتان مهمتان، وحل الخلافات بينهما سيؤدي إلى تحول إقليمي”، بحسب ما نقلته “وكالة الأنباء الإيرانية” في 17 تموز (يوليو) الجاري.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، خلال مؤتمر صحافي، قال إنه “أجریت خمس جولات من المفاوضات بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين، وكانت إيجابية”، مضيفاً: “من الممكن أن تعقد الجولة القادمة من الاجتماع الثنائي في بغداد على مستوى مناسب، ويمكننا أن نتخذ خطوة جادة وملموسة إلى الأمام بفضل الإنجازات السابقة”.
هذه التصريحات الإيجابية الإيرانية، ستكون لها صدقيتها عندما تُدعم بالأفعال، وذلك من خلال تثبيت الهدنة في اليمن، والضعط على “الحوثيين” من أجل وقف الحرب والجلوس مع بقية الفرقاء اليمنيين بهدف الحوار وبدء الحل السياسي للأزمة؛ كما من المهم أن تلعب إيران دوراً في كبح جماح الجماعات المسلحة الموالية لها في العراق، لتتمكن أي حكومة عراقية قادمة من حل المشكلات العالقة وتثبيت مبدأ “سيادة القانون” وحصر السلاح بيد الدولة، وكذلك الأمر في لبنان؛ فضلاً عن ضرورة منع “الحرس الثوري” من ممارسة أي أنشطة خارجية تضر بمصالح دول الخليج العربي أو تزرع الخلايا المسلحة في داخل هذه الدول لتقوم بأعمال عنف وإرهاب.
لقد نفى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، وجود أي نية لتشكيل “ناتو عربي” بالتحالف مع إسرائيل موجه ضد إيران. أي أن الرياض وبقية دول “الاعتدال العربي” ليست في وارد التآمر على طهران، والتي عليها الآن أن تختار بين منطق الحوار والتعاون الذي هو في مصلحة الجميع، أو الاستمرار في سياسة “تصدير الثورة” وتحمل عواقبها!
هل التغيير ممكن في إيران؟ أعتقد أنه ممكن، وإن كان يحتاج إلى وقت، أو قد يكون بطيئاً، وقد يواجه ممانعة داخلية شرسة من الأصوليين، وذلك عائد إلى طبيعة النظام الحاكم حالياً، وتعدد أقطاب القوى فيه، وللدور الذي توغل لـ”الحرس الثوري”، وعوامل عدة مختلفة.
إن التيار الإصلاحي الذي يمثله الرئيس السابق محمد خاتمي، وحتى “المحافظون المعتدلون” الذين تمثلهم شخصيات كالرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني أو الرئيس السابق حسن روحاني؛ كما شخصيات أخرى لها تاريخها السياسي كرئيسي “مجلس الشورى الإسلامي” السابقين ناطق نوري وعلي لاريجاني وطيف واسع من السياسيين والأكاديميين والمثقفين والمرجعيات الدينية، يرون أن استمرار القطيعة مع السعودية يمثل سياسة تضر بالمصالح الوطنية الإيرانية، ويرون أن العلاقات مع دول الخليج العربي يجب أن تتطور وتتحسن، وهي وجهة نظر تؤيدها شرائح واسعة جداً من الشعب الإيراني.
القرار الآن بيد مرشد الثورة آية الله علي خامنئي، وهو وحده القادر على أن تكون له الكلمة الفاصلة، ويضع حداً لأي ممانعة من جهة التيارات الأصولية، بخاصة أن الرئيس إبراهيم رئيسي شخصية مقربة من مكتب المرشد، وبالتالي فإن دعمها وتقوية موقفها في السياسات الخارجية، لن يسجل انتصاراً للتيار الإصلاحي بل سيكون في رصيد رئيسي وفريقه، الذين هم أبناء تيار “خط الإمام” وليسوا من خارجه أو نقاده.
هي فرصة تاريخية أمام النظام الإيراني، وقد تكون مدخلاً لتحويل طريقة تفكيره نحو الواقعية السياسية، والاشتغال بالتنمية والتحديث، وإن كان ذلك أمراً ليس يسر المتشددين، إلا أنه في مصلحة الشعب الإيراني وشعوب المنطقة التي تعبت من الشعارات والسياسات التصعيدية الطوباوية.
النهار