ابتعدت في المقال السابق عن الكتابة في قضايا أدبية أو فكرية أو فنية، وكتبت عن الفلافل بمناسبة عيد الأضحى والحديث المشتعل عن اللحم. قررت أن أعود في هذا المقال إلى الأدب أو الفن، لكني وجدت نفسي مندفعا لأكتب في السياسة.
صارت زيارة بايدن للمنطقة العربية وإسرائيل في هذا الشهر يوليو/تموز من هذا العام 2022 مادة للصحافة، كثرت فيها التحليلات والمناقشات، وكلها محل اعتبار تشاؤما وتفاؤلا، أو هكذا جرت العادة. لكنني وجدت نفسي ابتعد عن كل المناقشات وأفكر، هل يتصور أحد أن ذلك سيكون له تأثير في ضياع قضية فلسطين؟
المؤشرات التاريخية كلها تقول إننا لن نأخذ شيئا من أمريكا لصالح قضايانا العربية، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية فلسطين، أو بأي قضية يكون فيها بلد عربي في مواجهة ما مع إسرائيل. هذا تاريخ وليس مجرد رأي، والذي يعود إلى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي سيتحقق من ذلك. على مدار سبعين سنة لم يتغير موقف أمريكا من قضية فلسطين ودعمها لإسرائيل، لكن على الناحية الأخرى هل تغيُّر موقف العرب سيغير من موقف إسرائيل؟
سأعود إلى أكبر انحياز لإسرائيل حدث من مصر بعد حرب عظيمة هي حرب أكتوبر/تشرين الأول، التي أخذها السادات وذهب إلى إسرائيل ثم أمريكا ليوقع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، التي جعلت من مصر وإسرائيل دولتين غير عدوتين. أتذكر ذلك الوقت وكيف صارت الدول العربية كلها في ناحية أخرى مضادة للسادات، كان أقل تجلياتها تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية في العام نفسه، ونقل مقر جامعة الدول العربية من مصر إلى تونس. فضلا طبعا عن المقاطعة السياسية والثقافية، فلم تعد الصحف والمجلات العربية تصلنا، ولا صحفنا ومجلاتنا تصل إليهم، حتى تمت الانفراجة بعد اغتيال السادات، وبعد أعوام قليلة انفتحت الاتصالات، ثم عادت مصر إلى الجامعة العربية وأعيد مقرها إلى مصر عام 1989. الآن وخلال عامين رأينا تطبيعا سياسيا بين البحرين والإمارات والمغرب والسودان من ناحية، وإسرائيل من ناحية ثانية. والآن بداية التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ونسمع أن حاكم تونس قيس سعيد يفكر في ذلك. تقارب المملكة العربية السعودية هو الأكثر إثارة لما تمثله المملكة من ثقل في المنطقة. وأعود إلى السؤال هل سيتغير موقف إسرائيل من القضية الفلسطينية في صالح الفلسطينيين؟ الإجابة لا. لم تقدم إسرائيل شيئا إيجابيا للقضية الفلسطينية بعد أن تصالحت معها أكبر دولة عربية وهي مصر في معاهدة كامب ديفيد. استغلت إسرائيل ابتعاد مصر عن قضية فلسطين، ثم ابتعاد العرب دون اتفاق معها، لكن بانشغالهم أو ضياعهم في حروبهم مع بعضهم، وراحت تتوسع في الأراضي الفلسطينية، ولا تسمح أبدا بحق العودة للفلسطينيين، وهو أقل الحقوق المعترف بها في الأمم المتحدة.
في اختصار استمرت إسرائيل في سياستها القائمة على إخلاء فلسطين من أهلها الحقيقيين، من أجل فكرة وهمية هي فكرة أرض الميعاد، التي قالت التوراة إنها هدية الرب لهم أو ليعقوب «لنسلك أعطي هذه الأرض من النيل إلى الفرات» هي الفكرة الأسطورية الدينية التي تجمع اليهود من شتات الأرض في بلد يدّعي العلمانية والديمقراطية، لكنه حصان الدين السريع الذي يصل براكبيه إلى أهدافه، فما بالك وراكبوه تقف وراءهم قوى كبرى مثل إنكلترا في البداية وغيرها من دول أوروبا، ثم أمريكا في النهاية التي أخذت مكان أوروبا في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. اقتراب إسرائيل الذي يتسع مع الدول العربية لن يغير سياستها. بمعنى أنها لن ترد الجميل لهذه الدول بوضع نهاية لتوسعها، أو موقفها الذي لا يتغير من أرض وشعب فلسطين. نحن نتابع ما يحدث في فلسطين كل يوم، من هدم للمنازل والأحياء وتوسع صهيوني، فضلا عن كذبة «القدس» كاملة عاصمة إسرائيل، التي بدأتها أمريكا مع دونالد ترامب، وصارت أهم أسباب الاضطرابات الكبرى في فلسطين. ستكون إسرائيل سببا مهما طال الوقت لإحراج هذه الدول أمام شعوبها، كما هو الحال في مصر، فحتى الآن لم تجد إسرائيل لها مكانا بين الشعب المصري.
إسرائيل التي تتغطرس مع كل تطبيع مع الدول العربية، تفتح طريقا أكبر لنضال الشعب الفلسطيني، وتحفر قبرها بيدها مهما طال الزمن.
أتحدث عن الشعوب لا الحكومات. تخيل لو كان الأمر غير ذلك. أعني لو كانت سياسة إسرائيل تغيرت مع شعب وأرض فلسطين. كانت الطرق ستنفتح لها بين الشعوب مهما كانت صغيرة، لكنها أخذت التطبيع طريقا تستريح به من الحروب والمقاطعات السياسية، وتستمر في غيها وهدفها الخرافي، بمعنى أخلاقي أساءت لمن قام بالتطبيع معها بداية من مصر، وسوف تفعل ذلك مع كل الحكومات التي قامت بالتطبيع معها غير مصر. هذه هي النقطة الأولى في لا جدوى التطبيع وأسبابها. أما الثانية وهي الأهم فهي إجابة على سؤال ماذا فعل الفلسطينيون منذ كامب ديفيد؟ هل توقفوا عن النضال ضد الاحتلال الصهيوني. يعجز القلم عن إحصاء الانتفاضات الفلسطينية بعد كامب ديفيد، وهو أمر متصل بتاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني. انتفاضة الحجارة عام 1987 ولم يتوقف الفلسطينيون عن الانتفاضات، وتغيرت وسائل نضالهم من الحجارة إلى السلاح إلى العمليات الانتحارية، حتى وصلنا إلى غزة بما تمتلكه من صواريخ تهز بها الاستقرار الإسرائيلي، حين تشن إسرائيل هجوما على غزة.
على الأرض حقا انقسم الجانب الفلسطيني إلى قطاع غزة والضفة الغربية، وهما معا يشكلان أقل مساحة تم السماح بها للفلسطينيين. وحقا أن قيادات الجانبين مختلفين فكريا وطريقة عمل. وحقا دخلت منظمة التحرير في حوارات مع إسرائيل انتهت باتفاق أوسلو عام 1993 اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل، واعترفت إسرائيل بحق الفلسطينيين في الحكم الذاتي في المساحة التي تشكلها الضفة الغربية وغزة، حتى لو تحت الرعاية الإسرائيلية. كان اتفاق أوسلو فرصة ذهبية لإسرائيل لأن تغير معاملتها للفلسطينيين، لكنها استغلته لصالحها، كما استغلت التطبيع، وراحت تتوسع كل يوم حتى وصلت إلى إعلان القدس كاملة عاصمة لإسرائيل، أي أن إسرائيل فازت من منظمة التحرير الفلسطينية بما لم تفز به من دولة قامت بالتطبيع معها مثل مصر، واستمرت في غيها وأحلامها الخرافية. لكن حتى الآن لم يتوقف النضال الفلسطيني، الذي نراه كل يوم وسيستمر، لأن إسرائيل فشلت وستفشل في إخلاء فلسطين من كل أهلها كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر مثلا. ذلك زمن انتهى ولن يتكرر رغم أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين في الخارج أكثر ممن هم في الداخل على أرض الضفة وغزة، أو من يسمونهم في إسرائيل بعرب 1948 أي الذين بقوا ولم يغادروا البلاد. ستشهد الأعوام المقبلة نضالا فلسطينيا أكبر، لأن الفلسطينيين عرفوا أن الطريق هو بيدهم لا بيد أخرى، ومهما كانت المحن التي تمر بها بلاد عربية، لن يؤثر ذلك فيهم. محن حقيقية كما هو الحال في لبنان وسوريا والعراق، أو محن متخيلة كما يثار من حديث أن التقارب الإسرائيلي الجديد ودول الخليج إنما هو في مواجهة إيران، التي بالمناسبة لم تقطع معها دول الخليج العلاقات. باختصار زيارة بايدن التي قيل إنها جاءت لتسعى إلى ضبط العلاقات بين أمريكا والمملكة العربية السعودية، والقمة التي قامت في جدة ومشاركة قيادات مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن فيها، كل ذلك وما سيأتي بعده لن يغير من الوضع السائد في المنطقة، وهو أن إسرائيل تستغل ما يحدث وتزداد غطرسة وحلما بأرض الميعاد، بينما الشعب الفلسطيني يزداد يوما بعد يوم قوة في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وما تفعله إسرائيل يجعله يزداد مقاومة ولن يضعف.
إسرائيل التي تتغطرس مع كل تطبيع مع الدول العربية، تفتح طريقا أكبر لنضال الشعب الفلسطيني، وتحفر قبرها بيدها مهما طال الزمن.
القدس العربي