حين خرج رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، لوداع الجنرال ديغول العائد إلى فرنسا التي تحررت من الجيش النازي، قال له «سيدي الجنرال، عليك منذ اليوم أن تعلم بأننا كبريطانيين إذا ما وضعنا يوماً أمام الخيار بين القارة (الأوروبية) والواسع العريض (المحيط الأطلسي) فإن قلوبنا سوف تدق في اتجاه هذا الأخير (أي الولايات المتحدة)». ومنذ ذلك الوقت تميزت السياسة الخارجية البريطانية بالتحيز لواشنطن، على الرغم من موقفها من غزو السويس العام 1956 الذي أرّخ لبداية حلول النفوذ الأمريكي مكان البريطاني في الشرق الأوسط.
كذلك منذ خطاب تشرشل نفسه، في زيوريخ عام 1946، الذي استخدم فيه عبارة «الولايات المتحدة الأوروبية»، بقيت العلاقة البريطانية – الأوروبية على هذا القدر أو ذاك من التوتر. لقد انضمت بريطانيا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في العام 1973عبر استفتاء شعبي جاءت نتيجته إيجابية بنسبة 67%. لكن منذ عام 1983 راح الحزب العمالي، الذي كان يتزعمه ميخائيل فوت، يطالب بالخروج من هذه المجموعة. وبقي اليسار، لا سيما في شقه المتشدد، معادياً للاندماج الأوروبي، في حين كان اليمين المحافظ أكثر قبولاً به. ولم يمل العماليون من توجيه الانتقادات للسياسة التجارية المشتركة التي على لندن الانصياع لها. ففي نظر ميخائيل فوت «حتى لو أن التاريخ والجغرافيا وضعا إنجلترا في أوروبا، فإن المجموعة الاقتصادية الأوروبية لم تخلق لنا. واندماجنا فيها صعّب علينا مكافحة المشكلات الاقتصادية والصناعية»، مضيفاً «عبر منعنا من شراء الغذاء من أفضل المصادر المتوفرة في العالم فإن الضغوط الأوروبية تسير عكس مخططاتنا الهادفة للسيطرة على الأسعار والتضخم». وقد وعد وقتها بأنه «عندما نصل إلى السلطة سوف نفتح مفاوضات أولية مع الدول الأعضاء الأخرى للاتفاق على روزنامة لانسحابنا من المجموعة الاقتصادية الأوروبية».
إذا كان هذا حال العماليين (زعيمهم الحالي جيريمي كوربين من المعادين لأوروبا)، فإن المحافظين ليسوا من عشاق أوروبا. فمارغريت تاتشر، التي وصلت إلى السلطة في عام 1979، أرادت «تصحيح» ما كانت تعتبره ظلماً، وهو المساهمة البريطانية المرتفعة في الميزانية الأوروبية، وكون المساعدات الزراعية الأوروبية يستفيد منها الفرنسيون أكثر من البريطانيين. وقد أطلقت في عام 1984، شعارها الشهير «أريد استعادة أموالي»، ونجحت في انتزاع موافقة بروكسل على تخفيض المساهمة البريطانية في الموازنة الأوروبية. وفي خطاب شهير لها، في مدينة بروج البلجيكية عام 1988، أكدت معارضتها لأوروبا فيدرالية، ولأن يكون للمجموعة الاقتصادية الأوروبية مصادرها الخاصة بها. وفي مجلس اللوردات، في عام 1990، أعلنت عن رفضها إنشاء عملة أوروبية موحدة، مؤكدة أن أوروبا ينبغي أن تكون «مجرد سوق مشترك واسع ليس أكثر».
لم توقع لندن على معاهدة ماستريخت إلا بعد أن استحصلت على استثناءات لها وإعفاءات من قيود، وبعد التوقيع عانى المحافظ جون ميجور الكثير قبل الحصول على إبرام البرلمان للمعاهدة إلى درجة أنه هدد بالاستقالة. واستمرت بعده المعارضة للاندماج الأوروبي في صفوف اليسار واليمين ومعها مشكلات بروكسل مع لندن التي لم تنضم إلى العملة الموحدة، اليورو.
وفي إبريل/نيسان 2004 أعلن توني بلير عن نيته إجراء استفتاء شعبي حول مشروع الدستور الأوروبي المشترك، الأمر الذي اعتُبر تنازلاً أمام المحافظين. ولم يحصل مثل هذا الاستفتاء لأن الدستور أسقطه الاستفتاءان الهولندي والفرنسي وقتها. غوردن براون وقع على معاهدة لشبونة، عام 2008، من دون استفتاء شعبي تلافياً لرفضها. لذلك عندما وصل المحافظ ديفيد كاميرون إلى داوننغ ستريت كانت المعاهدة قد أمست أمراً واقعاً، لكنه وعد بمقاومة مفاعيلها. وعلى الأرجح أن تعيين كاترين آشتون مسؤولة عن السياسة الخارجية الأوروبية لدى البدء بتطبيق المعاهدة في عام 2011، كان هدفه إرضاء البريطانيين. لكن كاميرون، في مواجهة المناهضين لأوروبا في بلاده وفي الوقت نفسه بغية ابتزاز أوروبا والحصول منها على المزيد من المكاسب لبلاده، أعلن بأنه سوف ينظم استفتاءً شعبياً على البقاء في الاتحاد أو الخروج منه، في نهاية عام 2017.
أعيد انتخاب كاميرون في يونيو/حزيران الماضي بعد أن كرر وعده هذا في حملته الانتخابية. وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وجه رسالة إلى رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك، تتضمن شروط لندن للبقاء في الاتحاد. وفي خطاب ألقاه في اليوم نفسه في شاتام هاوس حذر نظراءه الأوروبيين من أنهم إذا أداروا لمطالبه «الأذن الطرشاء» فسيكون عليه عندئذ التساؤل عن جدوى البقاء في الاتحاد، وأما في حال تحقيق هذه المطالب فسيخوض، قلباً وروحاً كما قال، معركة في الاستفتاء تأييداً لبقاء بلاده في الاتحاد.
هذه الشروط تتمحور حول فكرة «مرونة» الاتحاد في ملفات أربعة، هي التنافسية، وحماية الدول خارج اليورو، والسيادة، والهجرة. وبعضها يعتبره زعماء أوروبيون فخاً لدفن الاتحاد، وآخرون تناقضاً مع روح الاتحاد ومبادئه الأساسية. وفي أواسط الشهر المقبل سيكون على القمة الأوروبية في بروكسل الخوض في نقاش لا يحمل تباشير إيجابية للمسيرة الاتحادية.
منذ اللحظة بدأت معركة الاستفتاء بالنسبة إلى كاميرون. فإلى المناهضين لأوروبا يتوجه بالقول إن «بريطانيا بلد عظيم فهي الاقتصاد الخامس في العالم، ويمكنها العيش خارج الاتحاد الأوروبي» وإن «على أوروبا أن تكون سوقاً مشتركاً وليس بلداً مشتركاً». أما مؤيدي أوروبا فيذكرهم بتضحيات بلاده في الحرب العالمية والدماء التي بذلتها من أجل حرية القارة واستقلالها، مضيفاً أن «أوروبا ليست فقط مسألة اقتصادية وقضية عمالة وبطالة وتجارة ولكنها مسألة أمن قومي».
وهكذا، في انتظار الاستفتاء وتحديد موقفه فيه، يقذف كاميرون الكرة في ملعب الأوروبيين وينتظر.
د.غسان العزي
صحيفة الخليج