الديمقراطية المباشرة تضرب من جديد

الديمقراطية المباشرة تضرب من جديد

%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%86-%d9%85%d8%a4%d9%8a%d8%af%d9%88%d9%86-%d9%84%d8%a8%d9%82%d8%a7%d8%a1-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84

مرة أخرى، يتسبب استفتاء شعبي في قلب بلد آخر رأساً على عقب. ففي حزيران (يونيو)، قرر الناخبون البريطانيون إخراج بلدهم من الاتحاد الأوروبي؛ والآن قررت أغلبية ضئيلة من الكولومبيين رفض اتفاق السلام مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا (FARC). وبذلك، قفز الكولومبيون إلى المجهول -وربما كانت قفزتهم هذه إلى الوراء، إلى هاوية قاسية عنيفة، إلى حرب بلا نهاية.
لا شك أن الشعبويين في كل مكان يحتفلون بالنتيجة باعتبارها توبيخاً واضحاً آخر للنخب التي لا تبالي إلا بمصلحتها الذاتية، والتي “تلاعبت” بحكوماتها ضد الشعوب. وهم يزعمون أنه لا بد أن يكون للناس صوت مباشر في اتخاذ القرارات المهمة التي تؤثر على حياتهم -وربما حتى على القرارات الحاسمة بشأن الحرب والسلام.
ولكن، إذا كان هناك بالفعل ما يمكن اعتباره “عجزاً في الديمقراطية” كما يزعم الشعبويون، فإن استخدام الاستفتاءات على نحو متزايد ليس هو العلاج لهذا العجز. بل على العكس من ذلك، تميل الاستفتاءات إلى جعل الأمور أشد سوءاً، بل إنها قد تقوض الديمقراطية ذاتها. وهذه قصة قديمة: فقد استخدم نابليون الثالث، على سبيل المثال، مثل هذا التصويت لإعادة تشكيل رئاسته المنتخبة في قالب اللقب الإمبراطوري الذي حمله عمه نابليون بونابرت.
بعد صعود الفاشية وأثناء الحرب الباردة، بدا الأمر وكأن ديمقراطيات العالم تدرك أن الاستفتاءات هي حيلة من صنع الحكام المستبدين الساعين إلى تركيز السلطة والقوة. وقد استخدم أدولف هتلر الاستفتاءات في السوديت والنمسا لتعزيز الرايخ الثالث. وبعد هتلر، استخدم جوزيف ستالين الاستفتاءات لدمج أوروبا الشرقية في الكتلة السوفياتية.
وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، نَظَّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن استفتاء سريعا في شبه جزيرة القرم والذي يفترض أنه كان المسوغ لضم هذه المنطقة. وجريا على تقليد نابليون الثالث، وهتلر، وستالين، استخدم بوتن الديمقراطية المباشرة لملاحقة غايات دكتاتورية.
لم تكن كل الاستفتاءات الأخيرة أدوات للسلطة الدكتاتورية بكل تأكيد. ولكن قدرا من الكذب والخداع لا يليق إلا بالطغاة والمستبدين من حقبة الثلاثينيات كان بكل تأكيد طاغيا على الحملة الداعمة للخروج في المملكة المتحدة، وعلى المعارضة للاستفتاء الهولندي في نيسان (أبريل) للموافقة على اتفاقية التجارة الحرة والشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا.
وفي المملكة المتحدة، ساعد بوريس جونسون هازئا في قيادة حملة الخروج في حين كانت عينه على خلع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وربما الحلول محله. ولكن عندما استقال كاميرون في تموز (يوليو)، خان أنصار الخروج جونسون، فاضطر إلى القبول بمنصب وزير الخارجية في حكومة تيريزا ماي الجديدة.
وفي الحالة الهولندية، استغل المتشككون في أوروبا والذين يسعون إلى الوقيعة بين هولندا والاتحاد الأوروبي، مأساة رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17 في العام 2014، والتي غادرت أمستردام وأُسقِطَت فوق أوكرانيا بواسطة انفصاليين تدعمهم روسيا، وهي المأساة التي خلفت جرحا عميقا في وجدان الشعب الهولندي.
الواقع أن عقد الاستفتاء البريطاني أو الهولندي أو الكولومبي كان ليتطلب تبسيط القضايا المعقدة بشكل جذري، وهو ما عزز نقاط القوة لدى القادة الشعبويين. ففي هولندا، طُلِب من الناخبين إبداء موافقتهم أو رفضهم لاتفاق يتألف من أكثر من 2000 صفحة، والذي من المؤكد أن أحداً لم يقرأه حقا سوى حفنة من الناخبين. فبدلا من ذلك، اعتمد أغلب الناخبين على النقاط السطحية التي عرضها في حديثه الزعيم الشعبوي خيرت فيلدرز، والتي لم تقدم لهم أي تقييم صريح للمسألة.
على نحو مماثل، طَرَح الاستفتاء على الخروج البريطاني سؤالاً حمل الكثير من التشعبات والتفرعات التي ما كان لأي ناخب أن يضعها جميعا في اعتباره. وفي الاستفتاء الكولومبي، كان الناخبون في احتياج إلى فهم عميق لعملية الحقيقة والمصالحة التي جرت في جنوب أفريقيا البعيدة، وتاريخ ما بعد الفصل العنصري، لتقييم اتفاق السلام على النحو الصحيح.
لقد نشأت الحكومة التمثيلية لإدارة هذا النوع من القضايا المعقدة. فنحن نصوت لاختيار ممثلين لنا -سواء بشكل فردي أو كجزء من حزب سياسي يقدم برنامجاً سياسياً يمكن التنبؤ به نسبياً- لكي يدافعوا عن السياسات التي نؤيدها. ولكن، وكما أشار إدموند بيرك في مقولة شهيرة: “من يمثلك مدين لك، ليس بمهنته فقط، بل وبحكمه على الأمور أيضاً، وهو يخونك ولا يخدم مصالحك عندما يضحي بهذا لتغليب رأيك”.
كانت الحملات التي قادها الشعبويون في الاستفتاءات الكبرى هذا العام متباينة في نواح مهمة. فعلى سبيل المثال، استند معارضو اتفاق السلام في كولومبيا إلى المعايير العالمية للعدالة في ما يتصل بجرائم الحرب التي ارتكبتها المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة الثورية في كولومبيا، ولم يستشهدوا بخصوصية وطنية، كما كانت الحال في المملكة المتحدة وهولندا. ولكن الناخبين في كل الأحوال كانوا مدفوعين برغبة في إفشال الحكومات والمؤسسات التي يعارضونها. وكانوا جميعاً على استعداد لاتباع تقليد الحكام المستبدين، واللجوء إلى التشهير والتشويه والمزاعم الخيالية.
في العالم الحقيقي، تشكل التسويات الفوضوية حقيقة من حقائق الحياة الديمقراطية؛ والشيء الوحيد الأكثر فوضوية من التوصل إلى السلام عن طريق التفاوض هو الحرب ذاتها. وما دامت التسويات والتنازلات لا تنتهك الحقوق الفردية، فإن المواطنين في الدول الديمقراطية يقبلونها كضرورة لتعزيز الحكم الفعّال. وعندما نختزل اتفاقية سلام، أو معاهدة تجارية، أو العضوية في الاتحاد الأوروبي في جملة واحدة أو عبارة قصيرة، تتراجع المناقشة الديمقراطية الحقيقية فتفسح المجال للضجيج السياسي المتمثل في اختيار عدم المشاركة، والمؤامرات، والصفقات الجانبية.
بوسعنا قول إن وقتنا هذا ليس مناسباً على الإطلاق لعقد استفتاءات، لأن ضائقة ديمقراطية أمسكت بتلابيب العديد من الدول منذ الأزمة المالية في العام 2008. وفي الاتحاد الأوروبي، يتعين على ساسة التيار الرئيسي أن يتقبلوا بعض المسؤولية عن المسارعة إلى إلقاء اللوم على “بروكسل” بعد كل مشكلة، أو تزييف الحقيقة حول المغزى الحقيقي لعضوية الاتحاد الأوروبي أو اتفاقيات الشراكة مع الدول المجاورة. وقد مهد قادة التيار الرئيسي إلى حد ما الطريق لزعماء الدهماء من الشعبويين الذين يزايدون على الحجج المتعقلة بمطالبات غاضبة معادية للمهاجرين.
لا يحمل الحكم القائم على استفتاء عامة الناس، وهو ما قد يجعله مرغوباً في نظر العقلاء. ففي العقود التي مرت منذ قدمت كاليفورنيا “مبادرات الاقتراع” على مستوى الولاية -والتي يستطيع بموجبها أي ناخب أن يتقدم باقتراحات لا يتطلب إقرارها سوى الموافقة عليها بأغلبية بسيطة- أصبحت الولاية غير قابلة للحكم عملياً. وقد أنفق حاكم كاليفورنيا الحالي جيري براون السنوات الثماني الأخيرة في تنظيف الفوضى المالية التي خلقها الناخبون في الولاية في العام 1978، عندما أقروا الاقتراح رقم 13، الذي قضى بخفض الضرائب على العقارات بنسبة 57 %.
وقد تصبح أوروبا قريباً على القدر نفسه من الاختلال مثل كاليفورنيا. ففي هذا الشهر، عَقَد رئيس الوزراء المجري متزايد الاستبداد فيكتور أوربان استفتاء لمعارضة سياسة الهجرة المشتركة للاتحاد الأوروبي. وإذا لجأت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي إلى مثل هذه المبادرات، فقد ينقلب التكامل الأوروبي في  الاتجاه المعاكس. ولا يحتاج المرء سوى الاستماع إلى الساسة الذين يدعون إلى عقد الاستفتاءات لكي يدرك إلى أين قد تقودنا الديمقراطية المباشرة.

نينا خروشوف

 صحيفة الغد