اختتم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، زيارته الأولى لمنطقة الشرق الأوسط التي استغرقت 4 أيام في الفترة من 13- 16 يوليو 2022، وشملت كلاً من إسرائيل، والضفة الغربية، والسعودية. وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية الصادرة عن الزيارة، خاصةً بيان “القمة السعودية – الأمريكية”، وبيان “قمة جدة للأمن والتنمية”، لم تتعرض من قريب أو بعيد للصين؛ فإن الأخيرة ودورها المُتزايد في الشرق الأوسط كان جزءاً رئيسياً من خطاب الإدارة الأمريكية عن الزيارة.
ويثير ذلك العديد من التساؤلات حول وضعية بكين في زيارة بايدن للشرق الأوسط، وفي ضوء نتائجها، وهل تمثل الصين المُحدد الرئيسي لتغيير السياسة الأمريكية تجاه المنطقة في الفترة القادمة، خاصةً بعد توجهات واشنطن السابقة بالتحول نحو آسيا لمواجهة التهديد الصيني، والانسحاب تدريجياً من الشرق الأوسط؟ وهل تعود واشنطن للانخراط بأطر مختلفة في الإقليم كجزء من سياسة “احتواء جديدة” تستهدف بكين؟
أطراف ثلاثة:
لفهم وضعية الصين في زيارة الرئيس بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، من المُهم قراءة الوضع في فترة ما قبل الزيارة، وتحليل العلاقات بين الأطراف الثلاثة (دول الإقليم، وواشنطن، وبكين)، وسياسات الأطراف المختلفة في هذه المُعادلة الثلاثية، وذلك على النحو التالي:
1- الاستراتيجية الأمريكية للتوجه شرقاً نحو آسيا:انطلاقاً من أن الصين أصبحت تمثل تهديداً للنفوذ الأمريكي، وأنها القوة الصاعدة المُنافسة للولايات المتحدة، وفي ضوء تقييمات الفكر الاستراتيجي الأمريكي لهذا التهديد؛ تبنت واشنطن منذ بداية إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، وإدارته الثانية، ثم إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وبدرجة أكبر كثافة خلال إدارة بايدن الحالية، سياسة خارجية تعتمد على التوجه شرقاً نحو آسيا للتركيز على التهديد الذي يمثله صعود الصين. وفي إطار هذه السياسة، كان هناك توجه استراتيجي أمريكي لتقليل الانخراط في الشرق الأوسط، وبصفة خاصة الانخراط العسكري الذي استنفذ الكثير من الموارد والقدرات الأمريكية، التي يجب إعادة توجيهها إلى آسيا في المرحلة المقبلة.
2- زيادة الانخراط الصيني في الشرق الأوسط: بالتوازي مع تركيز الولايات المتحدة على التوجه شرقاً لمواجهة التهديد الصيني، كانت بكين تتحرك للانخراط أكثر في المساحات التقليدية لواشنطن، وأبرزها الشرق الأوسط، الذي ظل على مدار عقود منطقة نفوذ وهيمنة أمريكية. وانتهجت بكين “استراتيجية ذكية” في الانخراط بالإقليم، حيث بدأتها بالاقتصاد بشكل رئيسي، وهو الملف الرئيسي لاهتمام الصين بالمنطقة، ثم توسعت لاحقاً نحو مستوى محدود من الانخراط العسكري، سواء لجهة التعاون العسكري مع بعض دول المنطقة، أو بيع المعدات والأنظمة العسكرية لها. لكن هذا المستوى من الانخراط العسكري ظل في حدود ضيقة عملياً، لكنه وفقاً للفكر الاستراتيجي الصيني هو خطوة أولى لمسار طويل الأمد، ستكون مصلحته، وفقاً لهذا الفكر، انخراطاً صينياً موازياً، وليس بديلاً بشكل كلي عن الانخراط العسكري للولايات المتحدة في المنطقة، وذلك على الأقل في المرحلتين الحالية واللاحقة.
3- تغير علاقات دول المنطقة مع واشنطن وبكين: أدى انسحاب واشنطن من منطقة الشرق الأوسط على مدار السنوات من عام 2008 وحتى عام 2022، وسياساتها تجاه الإقليم منذ وصول بايدن للسلطة في يناير 2021؛ إلى تغيير في العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الرئيسية في المنطقة، وتمثلت ملامحه في تركيز واشنطن على مصالحها أولاً دون مراعاة لتوازن المصالح مع هذه الدول، ومثال ذلك توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، ومفاوضات العودة إليه في عام 2021 وحتى الآن. وأدى ذلك إلى فقدان ثقة دول المنطقة في واشنطن نتيجة التقلب في سياستها، ودفعها إلى تنويع علاقتها السياسية وتحالفاتها بعيداً عن واشنطن. وكانت بكين جزءاً من التوجه الجديد لهذه الدول، فخلال السنوات الماضية تعززت علاقات الصين مع العواصم الرئيسية في المنطقة، وأصبحت منافساً رئيسياً لواشنطن.
نتائج الزيارة:
يمكن إيجاز نتائج زيارة بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، التي شملت إسرائيل، والضفة الغربية، والسعودية التي كانت المحور الرئيسي والأهم في الزيارة؛ في ثلاثة مستويات رئيسية، وهي كالتالي:
1- تعزيز العلاقات الأمريكية مع دول المنطقة: أسفرت الزيارة عن تأكيد أمريكي واضح على تعزيز علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة، خاصةً إسرائيل، والسعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين، وسلطنة عُمان، وقطر، وأيضاً الدول الثلاث التي شاركت في “قمة جدة للأمن والتنمية” وهي مصر والعراق والأردن، وكذلك تعزيز العلاقات على المستوى الجماعي بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. وكان الأبرز ضمن هذا المستوى، إعادة التأكيد على الشراكة الأمريكية – السعودية، والشراكة الأمريكية – الخليجية. وفي سياق تعزيز الشراكة مع دول المنطقة، سواء على مستوى ثنائي أو جماعي، جاءت تأكيدات إدارة الرئيس بايدن على أن الولايات المتحدة لن تترك فراغاً استراتيجياً في المنطقة يُمكن أن تتحرك فيه الصين أو روسيا. وبرز ذلك بشكل واضح في تعرض بايدن لهذه النقطة في مقاله بصحيفة “واشنطن بوست” قُبيل الزيارة، أو تصريحاته خلال الزيارة، أو تصريحات كل من مستشار الأمن القومي، والمتحدثة باسم البيت الأبيض، ومنسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي.
2- التعاون الاستراتيجي في الملفات الإقليمية: عكست البيانات الرسمية التي أصدرها البيت الأبيض بشأن الزيارة، بدايةً من البيان الصادر عقب مباحثات الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، مروراً بإعلان جدة عقب المباحثات السعودية – الأمريكية بقيادة الرئيس بايدن وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وكذلك بيان “قمة جدة للأمن والتنمية”، وصولاً إلى البيانات الصادرة عن البيت الأبيض عقب لقاءات بايدن مع قادة وزعماء دول المنطقة؛ تأكيداً على التعاون والتنسيق الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ودول المنطقة في الملفات الإقليمية الرئيسية، وأبرزها إيران.
فخلال الزيارة، شرح بايدن لدول المنطقة موقف بلاده من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وكانت هناك رسالة جماعية من الولايات المتحدة ودول الإقليم بأنه لن يتم السماح لطهران بامتلاك سلاح نووي. ومن جهة أخرى، ركز جزء من فاعليات الزيارة على تنسيق مستوى من ترتيبات الأمن الجماعي خاصةً المرتبط بالأمن البحري، لمواجهة التهديدات الإيرانية. هذا بالإضافة إلى قضايا أخرى، بدايةً من أزمة اليمن، مروراً بالأوضاع في سوريا، ولبنان، والعراق، وكذلك أزمة سد النهضة، وانتهاءً بحرب أوكرانيا على المستوى الدولي.
3- التنسيق بشأن قضايا الأمن غير التقليدي: في سياق تطور العلاقات الأمريكية مع دول المنطقة لمستوى يتناسب مع التهديدات الدولية والإقليمية للمصالح المشتركة بين الطرفين، أسفرت زيارة بايدن عن مجموعة من النتائج المُرتبطة بقضايا الأمن غير التقليدي، والتي يُمكن النظر إليها باعتبارها من النتائج المُهمة للزيارة، وتشمل الآتي:
أ- أمن الطاقة وتغير المناخ: تركز جانب من زيارة الرئيس بايدن للمنطقة، خاصةً للسعودية، حول قضية أمن الطاقة وتغير المناخ. ففي هذا السياق، ووفقاً لنص “بيان جدة” بشأن المباحثات الأمريكية – السعودية، وبيان “قمة جدة للأمن والتنمية”؛ توافق الجانبان السعودي والأمريكي على الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية، ورحبت الولايات المتحدة بالتزام المملكة بدعم توازن أسواق النفط العالمية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المُستدام. واتفق الطرفان على التشاور بانتظام بشأن أسواق الطاقة العالمية على المديين القصير والطويل، وكذلك العمل معاً كشركاء استراتيجيين في مبادرات المناخ وانتقال الطاقة.
¬وفي إطار قضية أمن الطاقة، من المُرجح أن تقوم السعودية في الاجتماع القادة لمنظمة “أوبك بلس”، بإعلان زيادة في إنتاج النفط بنسبة 50% عن الزيادة السابقة التي أعلنتها في الاجتماع السابق في شهر يوليو والتي تبلغ أكثر من 200 ألف برميل؛ أي أن الزيادة المُحتملة ستكون 100 ألف برميل. علاوة على إعلان ولي العهد السعودي في “قمة جدة للأمن والتنمية” أن بلاده ستقوم بزيادة إنتاج النفط إلى 13 مليون برميل يومياً. ولاحقاً أشارت تقارير إعلامية إلى أن هذه الزيادة سوف تحدث على المدى البعيد وستكون في عام 2027 بعدما تتوسع السعودية في الاستثمارات اللازمة لزيادة مستوى الإنتاج اليومي الحالي والذي يتجاوز 10 ملايين برميل.
ب- أزمة الغذاء: وفقاً لإعلان “قمة جدة للأمن والتنمية”، توافقت مجموعة “التنسيق العربية”، التي تضم عشر مؤسسات تمويل تنموية وطنية وعربية ومتخصصة، على تقديم مبلغ لا يقل عن 10 مليارات دولار، لغرض الاستجابة لتحديات الأمن الغذائي إقليمياً ودولياً، وبما يتفق مع أهداف (خريطة الطريق للأمن الغذائي العالمي – نداء للعمل) التي تقودها الولايات المتحدة. كما قدمت واشنطن دعماً إضافياً بقيمة مليار دولار لتلبية حاجات الأمن الغذائي المُلحة على المديين القريب والبعيد لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. علاوة على إعلان عدد من الشركاء من دول مجلس التعاون الخليجي خططها لاستثمار ما مجموعه 3 مليارات دولار في مشاريع تتوافق مع أهداف مبادرة الشراكة العالمية للاستثمار والبنية التحتية التي أعلنت عنها الولايات المتحدة، وذلك للاستثمار في البنى التحتية الرئيسية في الدول مُنخفضة ومُتوسطة الدخل، بما في ذلك الاستثمار في مشاريع تعزز أمن الطاقة، والمناخ، والاتصال الرقمي، وتنويع سلاسل الإمداد العالمية.
تداعيات صينية:
يكشف تحليل نتائج زيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط على المستويات الثلاثة سالفة الذكر، عن مجموعة من الدلالات التي سيكون لها تداعيات قد تظهر آثارها، خاصةً بشأن الدور الإقليمي للصين في الفترة المُقبلة، وذلك على النحو التالي:
1- وجود سياسة “احتواء أمريكية جديدة” للصين في الإقليم: إن تأكيد واشنطن على الشراكة الاستراتيجية مع دول الإقليم، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي، وترجمة ذلك في مبادرات تتعلق بأزمات الطاقة وتغير المناخ والغذاء، أو الاستثمار في البنية التحتية في الدول مُنخفضة ومُتوسطة الدخل؛ يكشف عن سياسة احتواء جديدة تنتهجها واشنطن في مواجهة بكين بالشرق الأوسط. وهذه السياسة ترتكز على العودة وتكثيف الانخراط في الإقليم، خاصةً على المستوى الدبلوماسي، وذلك بمبادرات جديدة تجاوز فكرة التركيز على الدور العسكري الأمريكي في المنطقة.
2- منافسة واشنطن لبكين في التكنولوجيا الجديدة:خلال السنوات السابقة، نجحت بكين في تقديم نفسها بمنطقة الشرق الأوسط في مجالات التكنولوجيا الجديدة، خاصةً شبكة اتصالات الجيل الخامس G5، والتي تمثل واحدة من الشبكات المُتقدمة التي يُنظر لها باعتبارها ترتبط بالأمن القومي للدول. وفي هذا الإطار، عملت شركة “هواوي” الصينية على توقيع اتفاقيات مع الشركات السعودية لتوفير هذه الخدمة في المملكة. وهذا التطور دفع الولايات المتحدة إلى أن تجعل التنافس مع الصين في التكنولوجيا الجديدة جزءاً من أجندة زيارة بايدن للمملكة. وفي ضوء ذلك، تم توقيع مذكرة تعاون جديدة تربط شركات التكنولوجيا في كل من السعودية والولايات المتحدة؛ وذلك لتعزيز تطبيق تقنية الجيل الخامس باستخدام شبكات الراديو المفتوحة، وتمكين تطوير الجيل السادس عبر تقنيات مُشابهة.
3- استمرار علاقات دول المنطقة مع الصين: وفقاً لتأكيدات الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة لن تترك فراغاً في المنطقة تتحرك فيه الصين أو روسيا، فإن حسابات البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية الأخرى تعتبر أن نتائج زيارة بايدن ذات الصلة بمواجهة النفوذ الصيني قد حققت أهدافها، لكن هذه الحسابات تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية، التي لا تدرج حسابات وتقييم دول المنطقة لمصالحها الاستراتيجية. فليس معنى وجود شراكة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة في مبادرات أو استثمارات في تكنولوجيا جديدة، أنها ستُغير من علاقاتها مع بكين أو ستُحقق واشنطن ما تقول إنه محاولة لإزاحة دول المنطقة عن “المدار الصيني”؛ حيث إن دول المنطقة لها حساباتها الخاصة بها، ومن المُرجح أن تستمر علاقاتها وربما تتكثف مع الصين في الفترة القادمة، في ظل سياسة تنويع الشركاء التي تنتهجها هذه الدول.
الخلاصة؛ حاول الرئيس بايدن خلال زيارته للمنطقة، إعادة تأكيد الشراكات الاستراتيجية مع دولها بشكل ثنائي وجماعي، وطرح مبادرات جديدة لتعزيز هذه العلاقات، وذلك في إطار تحرك أمريكي لإزاحة دول المنطقة عن “المدار الصيني”. لكن هذه الاستراتيجية التي تعكس سياسة “احتواء جديدة” من جانب واشنطن لبكين في الشرق الأوسط، من غير المُرجح أن تنجح في ظل سعي دول المنطقة لتنويع شركائها على المستوى الدولي، وعدم الثقة المستمرة في الحليف الأمريكي.
المستقبل للدراسات