يحيي جيش الاحتلال ”الإسرائيلي“ في مثل هذه الأيام ذكرى مرور عشرين عامًا على تنفيذ عمليته العسكرية ”السور الواقي“، التي اعتبرها نقطة تحول تاريخية في المواجهة الفلسطينية-”الإسرائيلي“ ، حيث خرج إليها في مارس 2002 في ذروة انتفاضة الأقصى، بعد وقوع مئات القتلى وآلاف الجرحى ”الإسرائيليين“ في هجمات مسلحة واستشهادية على نطاق لم يشهده المجتمع ”الإسرائيلي“ من قبل، وتقوض الشعور بالأمن لديه إلى حد كبير، مما دفع قائد جيش الاحتلال الأسبق ”شاؤول موفاز“ إلى التصريح في مناقشات وتقييمات الوضع بأن ”هذه حرب في الداخل“.
يعد هذا الكتاب الأول من نوعه في دولة الاحتلال، حيث يقدم ما يمكن تسميته في الأدبيات التاريخية بـ”الرواية الرسمية“ حول عملية ”السور الواقي“، كونه اعتمد على المصادر الأولية بشكل أساسي، وحصل على النصوص الأصلية لأوامر العمليات العسكرية، وملخصات الاجتماعات القتالية والتحقيقات العملياتية التي شهدتها القيادة المركزية للجيش وهيئة الأركان.
سعى الكتاب إلى فحص خلفية العملية وتحركاتها العسكرية من منظورين، أولهما الفترة التي سبقت تنفيذها، وهي الأشهر الثمانية عشر الأولى لاندلاع انتفاضة الأقصى، وثانيهما اتخاذ القرار التاريخي بتنفيذها، وما أعقبها من نتائج عسكرية وسياسية، خاصة وأن العملية ارتبطت في الذاكرة الجماعية ل”إسرائيل“، كونها شهدت إعادة احتلال كافة مدن الضفة الغربية، وأهمها: جنين ونابلس وبيت لحم وطولكرم وقلقيلية ورام الله، وفي كل واحدة منها وقعت معارك ضارية رآها ”الإسرائيليون“ بأم العين!
تضمن الكتاب مقابلات مباشرة مع العشرات من الجنرالات والضباط الذين خططوا لعملية السور الواقي، وشاركوا في تنفيذها، كما عرض جداول شاملة وصورًا ملونة لأبرز مراحل العملية، فضلًا عن تقديمه من قبل الجنرالين ”أفيف كوخافي“ قائد جيش الاحتلال الحالي، وأحد المشاركين في عملية السور الواقي، و”شاؤول موفاز“ قائده الأسبق، الذي أشرف على تلك العملية بشكل مباشر.
- يوميات العملية:
استغرق تنفيذ عملية السور الواقي قرابة ثلاثة أسابيع، بين 27 مارس إلى 21 أبريل 2002، وتضمنت مجموعة كبيرة جدًا من القوات العسكرية المشاركة، سواءً النظامية أو الاحتياط، وفي حين أن العملية من الناحية العسكرية لم تقض كلياً على المقاومة الفلسطينية، بدليل أن هجماتها تواصلت حتى بعد هذه العملية الدامية، لكنها من الناحية السياسية وضعت نهاية لعهد الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، حيث انتهت العملية بفرض حصار مشدد عليه في مقره بالمقاطعة في رام الله، حتى أودى به ذلك إلى وفاته في ظروف غامضة في نوفمبر 2002.
يذكر الكتاب أن العملية الاستشهادية التي نفذها عبد الباسط عودة الكادر في حركة حماس في فندق بارك بمدينة نتانيا شمال فلسطين المحتلة ليلة 27 مارس 2002، وأسفرت عن مقتل 30 ”إسرائيليًا“ وإصابة 160 آخرين، شكلت ساعة الصفر لانطلاق دولة الاحتلال نحو ”السور الواقي“، لأن العملية صنفت بأنها الهجوم الأكثر قوة في دولة الاحتلال، وجاءت تتويجًا لموجة دامية من الهجمات، استمرت عامًا ونصف منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، قتل فيها أكثر من ألف ”إسرائيلي“ وجرح آلاف آخرون.
يستعرض المؤلف أبرز التطورات العملياتية للسور الواقي، إذ شملت إعادة احتلال المدن الفلسطينية، وتضمنت دخول مناطق مكتظة بالفلسطينيين، بما في ذلك مخيمات اللاجئين، التي شكلت معاقل البنى التحتية للمقاومة، وخرج منها معظم منفذي الهجمات الاستشهادية، في تعبير هو الأكثر وضوحًا على أن جيش الاحتلال لم يعدّ بوسعه التعامل مع العمليات الفلسطينية بمنطق الاحتواء، وبالتالي فقد وجد نفسه مندفعًا باتجاه عملية طويلة الأمد، استعدّ لها، وخصص موارد كبيرة للتدرب عليها، من خلال توفير كمّ كبير من المعلومات الاستخباراتية.
يكشف الكاتب أن جيش الاحتلال بدأ استعداداته العملياتية لمثل هذه العملية العسكرية فور فشل جولات ”كامب ديفيد“ بين ياسر عرفات و”إيهود باراك“ برعاية ”بيل كلينتون“، وحينها ساد الاعتقاد ”الإسرائيلي“ بأن عرفات سيختار الضغط الميداني على الاحتلال كونها وسيلة للخروج من المأزق السياسي، وإشعال النار في المنطقة بطريقة أو بأخرى، ورغم الهدوء النسبي الذي ساد بعد فشل المفاوضات، وقبل أن تندلع انتفاضة الأقصى، فقد استعاد الجيش يوميات أحداث النفق في عام 1996، ووضع فرضية تكرارها على نطاق أوسع، وهو ما حصل فعلًا.
- بيئة معقدة:
كان يُنظر إلى البيئة الاستراتيجية تجاه الفلسطينيين قبل ذهاب جيش الاحتلال إلى السور الواقي بوصفها أكثر تعقيدًا من باقي البيئات المحيطة، مثل: اللبنانية والسورية مثلاً، في ضوء التعاون الأمني القائم مع السلطة الفلسطينية، ووجود العناصر المسلحة والقوى المتنافسة، ومع انطلاق قطار التسوية معهم منذ أوائل التسعينات، فقد شعر المستوى العسكري”الإسرائيلي“ أنه يجب السماح للمستوى السياسي بالعودة إلى طاولة المفاوضات، حتى لو تعثرت، ولذلك تركزت المناقشات في المؤسستين الأمنية والعسكرية على التطورات الجارية خارج الحدود، وليس على الداخل الفلسطيني، وإن انطلقت مواجهة ما معهم، فإنها ستكون ”محدودة“، وليست واسعة، لكن أحداث السور الواقي جاءت بنتيجة معاكسة.
إن الجيش وأجهزة الأمن من شواهد البيئة الفلسطينية المعقدة، ومن وجهة النظر ”الإسرائيلية“، عاشت أفضل أوقاتها في سنوات التنسيق الأمني الذي بدأ فور تشكيل السلطة الفلسطينية في 1994 وصولًا إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، وخلالها وجد الجيش نفسه مضطرًا أحيانًا إلى احترام السيادة الفلسطينية على أراضيها، من خلال وقف المطاردات الساخنة في المنطقة ”أ“ من الضفة الغربية، وبذل الجيش جهودًا كبيرة للحفاظ على قنوات الاتصال والتواصل مع الأجهزة الفلسطينية الموازية من أجل خفض ارتفاع اللهب في بعض الأحداث الميدانية من خلال الجولات المشتركة لضباط الجانبين، سواءً للتنسيق الأمني البحت، أو زيارات المجاملة لتقوية العلاقات، واحتساء الشاي معًا.
ثبت لجيش الاحتلال وفق رأي الكاتب مع اندلاع الانتفاضة واشتعال النيران في الضفة الغربية وقطاع غزة، أن كل هذه الإجراءات لم تفلح في عدم دحرجة الواقع الميداني مع الفلسطينيين، بدليل انتشار المواجهات العنيفة في العشرات من مراكز المدن، وتضمنت مزيجًا من رشق الحجارة، وإغلاق التقاطعات، والإطارات المشتعلة على الطريق، وإلقاء زجاجات المولوتوف، ورغم أن معدل الاعتقالات الليلية في صفوف الفلسطينيين كان كبيرًا لكنه لم يفلح في وقف هذا التدهور الأمني، مما اضطر الجيش لإقحام وحدات النخبة التي لم يظهر أنها كافية، بل سرعان ما ظهرت الحاجة إلى إدخال المدفعية والمدرعات أيضًا، ومع ذلك دون جدوى.
يتوقف الكتاب عند استدراك مهم متعلق بعمليات التخطيط وبناء القوة لدى الجيش التي ركزت بشكل مفرط على التعامل مع الاضطرابات الميدانية، لكنها لم تأخذ في الاعتبار أنه سيُطلب منه دخول مراكز المدن الفلسطينية المزدحمة، ناهيك عن مخيمات اللاجئين المكتظة، من أجل التعامل مع المجموعات المسلحة التي جعلت عملياتها الواقع الميداني أكثر صعوبة، لأنها حوّلت قلب المناطق المبنية إلى معاقل محصنة لها، ومع مرور الوقت أنشأت هذه المجموعات بؤراً ثابتة ومتحركة للاحتكاك مع الجيش والمستوطنين في مختلف القطاعات.
- فشل متكرر:
شكلت عمليات إطلاق النار على الدوريات العسكرية وحافلات المستوطنين بصورة يومية، بجانب العمليات الاستشهادية التي شكلت الصاعق المباشر لإطلاق السور الواقي واقعًا لا يطاق في الضفة الغربية، حتى أن إطلاق النار اليومي على الأحياء الاستيطانية في القدس المحتلة تحولت إلى أشياء روتينية، وتطور الموقف للانتقال إلى إطلاق قذائف هاون بعد مرحلة العيارات النارية، صحيح أن الجيش سعى إلى احتلال مناطق عازلة محيطة لمنع هذا الأمر، لكن ذلك أيضًا لم يجلب الراحة للمستوطنين، الذين ظنوا أن ”السماء ستسقط على الفلسطينيين، وأن أبواب الجحيم فتحت لهم“، لأنهم يستهدفون ”العاصمة الأبدية“ للاحتلال، دون جدوى.
يكشف الكتاب عن بعد سياسي واضح، يتحدث عن بحث الاحتلال عن مظلة دولية لعملية السور الواقي التي انطلقت لاحقًا، لاسيما بعد عملية الملهى الليلي ”دولفيناريوم“ في وسط تل أبيب يوم 1 يونيو 2001، التي نفذها سعيد الحوتري من حركة حماس، وصنّفه الجيش بأنه ”هجوم استراتيجي“ في شدة الصراع، وقدرة الفلسطينيين على تنفيذ عمليات استشهادية معقدة، وقتل في الهجوم 21 ”إسرائيليًا“ ، وحينها بدأ الاحتلال يتحدث بحصوله على دعم دولي ”من الجدار إلى الجدار“ ، ومع ذلك فإن العمليات الفلسطينية لم تتوقف، لاسيما عملية ”وادي الحرامية“ برام الله التي نفذها كايد حماد في 3 مارس 2002، وهو شاب فلسطيني قتل لوحده 11 جندياً وأصاب 9 آخرين، فقط بـ26 رصاصة، وحينها كان من الصعب -يعترف المؤلف |الإسرائيلي”- وصف مشاعر الإحباط والعجز التي شعر بها قادة الجيش في مواجهة فقدان المبادرة، وفشل محاولة احتواء الموقف، والافتقار إلى الشجاعة، وكلها عوامل شكلت حوافز متلاحقة لتنفيذ السور الواقي التي ”جبت من الجيش أثماناً ليست هيّنة من الدماء“ في صفوف جنوده.
يبدو مهماً الإشارة إلى أن الكاتب يغفل عن سابق إصرار عن بشاعة المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، لاسيما في مخيمات اللاجئين بزعم ”تطهيرها“ من المسلحين، وقد أخذ ضوءًا أخضر من قيادته السياسية ممثلة ب”أريئيل شارون“ والعسكرية من وزير الحرب ”بنيامين بن أليعازر“ وقائد الجيش ”شاؤول موفاز“ بارتكاب المجازر تمهيدًا إلى الدخول إلى ”عش الدبابير“، من خلال تخصيص خمسة فرق نظامية، وتجنيد 40 ألفًا من جنود الاحتياط.
- سور واقي 2!:
يتزامن صدور الكتاب ”الإسرائيلي“ مع موجة العمليات التي شهدها الداخل ”الإسرائيلي“ في شهور مارس وأبريل ومايو الماضية، وأسفرت عن مقتل قرابة عشرين ”إسرائيلياً“، مما زاد من الدعوات إلى تنفيذ نسخة مجددة من عملية ”السور الواقي“ التي نفذها الاحتلال في الضفة الغربية، مع أن الظروف الحالية في 2022 ليست هي ذاتها في 2002، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، واختلفت أوضاع سياسية وميدانية لدى المقاومة والاحتلال، ما يضع علامات استفهام عديدة حول مدى وجاهة هذه الدعوات، أم أنها تأتي في إطار حالة ”الصراخ المؤقت“ فقط تحت ضراوة العمليات الأخيرة.
اليوم، ربما يظن الجيش أن بإمكانه السيطرة على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، بما فيها تلك المصنفة بأنها مناطق ”أ“، لكنه سيكون اجتياحا أو سيطرة بدون هدف حقيقي ممكن، رغم أن الهدف المعلن هو القضاء على البنية التحتية للمقاومة، غير أن استمرار هجماتها الناجحة يثبت أن هذا الهدف مجرد وهم، بدليل أن قيادة المقاومة وجدت ضالتها في مهاجمة أهداف في عمق دولة الاحتلال، وليس في الضفة الغربية فقط.
بعد عشرين عامًا على عملية السور الواقي، التي تخللتها حرب المدن والمخيمات، يستخلص الكتاب أن أحد الدوافع ”الإسرائيلية“ إلى تنفيذها كانت تطبيق شعار ”دعوا الجيش ينتصر“، في محاولة منه لوقف ما عانته الجبهة الداخلية ”الإسرائيلية“ من ”نزيف مادي ومعنوي“ لم يحدث من قبل، رغم كل أشكال الاستنفار الأمني، وعشرات الآلاف من العساكر الذين جُندوا للتصدي لمنفذي تلك الهجمات.
تعليق: بينما ينشغل المؤلف ”الإسرائيلي“ بما يعتبره إنجازات عسكرية تحققت في السور الواقي، لكنه يغفل ما ارتكبه جيش الاحتلال من عمليات إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، معيدا سلوكيات عسكرية همجية بزعم حماية جنوده، حتى من خلال الإيعاز لطائرات الإف35 بقصف مواقع مدنية، وقتل المئات بضربة واحدة، من الأطفال والنساء، دون أن يتأثر أحد.
مركز رؤية للتنمية السياسية