أصبح المطلوب منا أن نقبل معايير متناقضة في قضايا متشابهة، وهي باتت مفروضة على العالم، رغم تناقضاتها الفجة، وأن نقبل هذا بوصفه وضعاً طبيعياً في العالم الذي يفتقر إلى العدالة. وحتى نقبله، علينا أن نتجاوز القيم التي على العالم الالتزام بها، ونقبل أحكام الإدارة الأميركية المتناقضة مع القيم، وليست المتناقضة مع مصالحها، بوصف المصالح الأميركية إلهاً يُعبد، وتقديسها يتجاوز كل القيم، والتي تراها الأساس المكوّن لسياسات الولايات المتحدة، ليس بوصفها مصالح ذاتية فحسب، بل ومصالح العالم أيضاً، بوصف الولايات المتحدة تقدّم نفسها حامي القيم والديمقراطية في العالم.
في زيارته أخيراً إسرائيل، وقّع الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير ليبيد، “إعلان القدس” الذي يقضي بمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، وجدّد التزام الولايات المتحدة الدائم بأمن إسرائيل (دولة الاحتلال باعتراف كل العالم) ودعمه تفوقها العسكري في المنطقة. أما في زيارته الضفة الغربية (حيث الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال) ولقائه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قال الرئيس الأميركي إن “إنشاء دولة فلسطينية مستقلة هو احتمال بعيد المنال”، يمكن القول إن الرئيس الأميركي أعطى الإسرائيليين (المحتلين) كل شيء، ولم يعطِ الفلسطينيين (الشعب المحتل) أي شيء، ولا حتى الأمل أو الوعد الكاذب بحلّ ما، فقد كانت الزيارة تقديراً عالياً للجلاد الإسرائيلي، ومهينة للضحية الفلسطينية. ومن المفارقات أن خلفية هذه الزيارة للمنطقة تسعى لحل مشكلات (ارتفاع أسعار النفط) سببتها الحرب الروسية على أوكرانيا (قضية احتلال جديدة)، التي وقفت فيها الولايات المتحدة بقوة ضد هذا الاحتلال، ودعمت السلطات الأوكرانية بالمال والسلاح، من أجل إفشال هذا الاحتلال، ولم تترك الولايات المتحدة تعبيراً رديئاً، لم تستخدمه في وصف الحرب الروسية التي اعتبرتها وحشيةً على أوكرانيا. واعتبرت أوكرانيا تدافع عن القيم الديمقراطية للعالم الغربي بمواجهة الاستبداد الروسي، وأن مقاتليها محاربون من أجل الحرية، وأنها تدعم قضية عادلة في مواجهة احتلال غير مشروع.
ماذا عن الاحتلال الآخر، ماذا عن الاحتلال الإسرائيلي وضحايا هذا الاحتلال؟ لم يقل الرئيس الأميركي أي شيء، إنما منح هذا الاحتلال كل ما يستطيع تقديمه من مساعدات ودعم وحماية سياسية وعسكرية، ووعد بدمجه في المنطقة، بدفع مزيد من الدول العربية للتطبيع معه. وليس لدى الإدارة الأميركية أي مشكلة مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية خلال أكثر من خمسة عقود، لأن بايدن لا يرى حلاً للمشكلة، وما يعاني منه الفلسطينيون مجرّد صعوبات في الحياة ستساعد الولايات المتحدة في تخفيفها عبر زيادة المساعدات المالية التي توقفت في ولاية دونالد ترامب.
هل يمكن القول إن هذه السياسة تعبّر عن معايير مزدوجة في الخطاب السياسي الأميركي؟ أعتقد أن الأمر تجاوز المعايير المزدوجة، وأصبحنا أمام عالمٍ تفرض عليه الولايات المتحدة القيم التي تريدها، وتتلاعب بها كما تريد، وهناك صفٌّ طويلٌ من الدول يكرّر الخطاب المزيّف وراءها، لأن هذه الدول لا تستطيع أن تقول: “لا للولايات المتحدة”، فهي تستطيع أن تتعامل مع مجرمين وقتلة بوصفهم حلفاء لها، وتدع القيم جانباً، وتستطيع أن تعيد النظر بالتعامل مع غيرهم وتشيطنهم، لأن المصالح الأميركية ليست مع هؤلاء، أو تستطيع التعامل مع قضايا محقّة وعادلة لضحايا، وتقلب المقاييس وتقف مع الجلاد، وعندما تناسبها القيم تتمسّك بها، وتصبح حامية لها، من دون النظر إلى تاريخها المشين في التلاعب بالقيم والقضايا العادلة. وبذلك ليست هناك قيم يجري القياس على أساسها، لنقول إن هناك معايير مزدوجة في السياسة الأميركية تجاه القضايا المتشابهة. الاحتلال الروسي لأوكرانيا غير شرعي، ويجب أن يُقاوم، وأن تُطرد القوات الروسية من أوكرانيا، بدعم الشعب الأوكراني لتحرير أرضه من احتلال غير مشروع، وفرض عقوباتٍ على السلطات الروسية. أما في حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فليس من الضروري أن يغادر الاحتلال الأراضي الفلسطينية التي يحتلها، وليس على الولايات المتحدة أن تدعم الفلسطينيين في نضالهم ضد الاحتلال، لأن هذا النضال عمل إرهابي حسب التصنيف الأميركي، ولتبقى إسرائيل تسرق الأراضي الفلسطينية يومياً، فهذا لا يمسّ المصالح الأميركية. لذلك، ليس هناك ما يحتاج إلى حل، فلتسرق إسرائيل مزيداً من الأراضي، ولتستمر في إذلال الفلسطينيين وقمعهم، ولينتظر الفلسطينيون حلاً “بعيد المنال” بلغة الرئيس الأميركي.
المصالح الأميركية هي مع الاحتلال الإسرائيلي، وليست مع ضحاياه، وما الحديث عن القيم سوى زيف أميركي
بالطبع، الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية غير شرعي، وليس للدولة الروسية أن تخوض حرباً عدوانية ضد دولة أخرى، لكن الدعم الأميركي لأوكرانيا لا يتعلق بالدفاع عن القيم والديمقراطية، كما تدّعي الإدارة الأميركية، بل هي خدمة لمصالح أميركية تتجاوز الحرب على الأرض الأوكرانية.
من الواضح أن هذه الحرب تُخاض من أجل مصالح أميركية، وأن الولايات المتحدة أرادتها من أجل المحاصرة النهائية لروسيا من خلال تقدم حلف الناتو وقضم الدول التي شكلت سابقاً المجال الجيوستراتيجي لروسيا، وبالتالي، في جانب من جوانبها، هذه حربٌ أميركية بالوكالة. هذا لا يغير من عدوانية الحرب الروسية على أوكرانيا، فليس من حق الولايات المتحدة إدارة حربٍ مع روسيا بالوكالة، وليس من حقّ روسيا الاعتداء على أوكرانيا، لأنها غير قادرة على خوض الحرب مع دول حلف الناتو، التي تحميها المظلة الأميركية.
في أماكن أخرى، وفي عدوانيةٍ مشابهة، لم يكن الموقف الأميركي كذلك، على مدى تاريخ الصراع في المنطقة العربية، حمت الولايات المتحدة دولة إسرائيل، ومنحتها من المساعدات والحماية ما لم تحظَ به دولة أخرى، رغم أنها دولة عدوانية. وعندما تحتج الولايات المتحدة على سياسات إسرائيل تستخدم عبارات الأسف ليس أكثر، بينما تسير إسرائيل في عدوانيتها محميةً بالسلاح والفيتو الأميركيين. هل تدعم الولايات المتحدة إسرائيل لأنها دولة ديمقراطية، ومن قال إن الديمقراطيات لا ترتكب جرائم ضد الإنسانية؟ وأي مراجعة لتاريخ الولايات المتحدة ذاتها تكذّب هذه الأقوال (بالتأكيد هذه مجرد دعاية)، والحقيقة أن المصالح الأميركية مع هذا الاحتلال، وليس مع ضحاياه، وما الحديث عن القيم سوى زيف أميركي، حتى في الحالة الأوكرانية.
العربي الجديد