أثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، الثلاثاء الماضي، ولا تزال تثير، لكثير من الجدل والتباين في واشنطن . الصقور رأوا فيها خطوة في محلها تحذيرا وردا على “تنمّر” بكين في أخيرا. فيما اعتبرها العارفون بشؤون السياسة الخارجية وبتعقيدات وحساسيات العلاقة مع الصين، زيارة كيدية غير مسئولة ولا مدروسة، بل خطرة في هذا الظرف الدولي الدقيق.
الأصوات المعترضة على الزيارة، أو المتحفظ عليها، كانت الأعلى، وحجتها أن سياسة “الغموض الاستراتيجي” لواشنطن منذ 1979، بعد أن تخلت عن معاهدة الدفاع المشترك مع تايوان وأقامت علاقات دبلوماسية مع بكين، خدمت الولايات المتحدة، فالتعهد بتسليح تايوان للدفاع عن نفسها وفّر للجزيرة الحماية من دون التزام واشنطن بالدفاع المباشر عنها.
جاءت تلك السياسة معبرة عن إدراك عميق لأهمية تجنب أي خطوة تستفز بكين، نحو زيارة مسئولين أميركيين بارزين إلى الجزيرة حتى لا يوحي ذلك بنية الارتداد عن هذه السياسة التي ضمنت وإن بصورة غير مباشرة تابعية الجزيرة مبدئياً للأراضي الصينية.
زيارة لمسؤول بوزن بيلوسي إلى تايوان حدثت سبقا مرة واحدة أواسط تسعينات القرن الماضي، حين زارها رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، ومن باب المزايدة آنذاك على الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون.
معطيات الزمن الراهن تغيرت، ومالت بكين أكثر إلى سياسة ” الغموض” وسعت لتفسيرها بما يتفق ومصلحتها، وبما يؤكد إصرارها على استعادة سيادتها عليها كما فعلت مع هونغ كونغ. ولهذا سجلت مآخذ قوية على الرئيس جو بايدن لرخاوة موقفه من من سفرة بيلوسي واكتفائه بنصيحة خجولة لها بأن تصرف النظر عنها، لأن البنتاغون (وليس بايدن) “لا يراها مناسبة “، فبدا وكأنه ضمنيا مع هز عصا من المقعد الخلفي للقيادة الصينية التي أعطى الصراع معها اولوية، لكن حرب أوكرانيا خرّبت عليه حساباته هذه.
لخطوة بيلوسي جانب آخر، وفق بعض القراءات، يتلخص في تنامي أجواء التحدي الخارجي في الكونغرس، وبالذات في صفوف الحزب الديمقراطي الذي يأخذ على الرئيس “ضعف أدائه الخارجي”.
تبدّى ذلك في الانتقادات القاسية لزيارته للسعودية، وفي بطء تزويد إدارته لأوكرانيا بالأسلحة، ليتم الأمر “على جرعات ” بدلا من تلبية حاجاتها ” بالغزارة ” المطلوبة كم يريد الصقور .
بتقدير هذه الأموساط، فإن التهاون مع “الهجمات” التي تقوم بها بكين في جنوب بحر الصين، وفي أجوائه ومياه تايوان، من شأنه أن يؤدي إلى تفاعلات لعبة الدومينو لو تركت الأمور على حالها. وتخشى أن يتهاوى الحجر الأول (تايوان) إلى تساقط الحجارة التالية المشابهة، كما تساقطت تباعا لاوس وكمبوديا في أعقاب سقوط سايغون. ويحذر أصحاب هذا التعليل أن تؤدي عودة تايوان إلى الأرض الصينية ، إلى “استباحت” الساحات المجاورة التي تربطها بواشنطن اتفاقيات دفاع مشترك مثل الفيليبين وأستراليا.
يحذر بعضهم من مغالطات المقارنة بينه وبين سوابق في تلك المنقطة ليس ثمة قواسم مشتركة بينها وبين تايوان. ربما راهنت بيلوسي على أن تعثر صديق الصين الروسي في حرب اوكرانيا، قد يكون درسا كافيا لعدم تورطها في مواجهة مع تايوان، عبر استفزاز بكين من غير كلفة.
ردت الصين بمناورات بحرية حول الجزيرة تستمر حتى الأحد القادم، تستعرض فيها قدرتها على حصار تايوان، ولا تخفي بعض الجهات قلقها من خروج الأمور عن مسارها والتسبب باحتكاك ما مع القوات التايوانية، في وقت لا تقوى فيه واشنطن على إدارة أزمتين، إن لم يكن خوض مواجهتين في آن، مع خصمين كبيرين.
مضيق تايوان شهد أزمة أميركية صينية في 1995 – 96 استمرت 8 اشهر بسبب زيارة الرئيس التايواني إلى جامعة كورنيل الأميركية والتي لا تقاس بالمنظور الصيني، بخطورة زيارة بيلوسي التي تعهدت في كلمتها اثناء استقبالها في تايبيه، بأن لا تتخلي الولايات المتحدة عن الجزيرة، ولوّح بايدن مؤخرا بالخيار العسكري في حال تعرضت تايوان لاجتياح صيني.
مع هذا التصعيد في الخطاب الأميركي، وما يقابله من قدرات صينية متزايدة، يبدو إن سياسة “شتاء وصيف على سطح واحد “، التي ارستها زيارة نيكسون للصين قبل 40 سنة، قد دخلت بداية النهاية. فالتزام واشنطن بعدم الدفاع المباشر عن تايوان واحتفاظها في ذات الوقت بخيار الحرب، غموض فات وقته وما عاد قادرا على الاستمرار
العربي الجديد