خلال احتدام المواجهات بين أنصار بشار الأسد ومعارضيه في سوريا في السنوات الأولى من الثورة على نظامه، وفيما كان النظام يترنح تحت ضغط التحركات الشعبية الواسعة، انتشر بين أنصار الرئيس السوري شعار واضح يعبر عن مدى تجاوب ذلك النظام مع أصوات المعارضين! كان الشعار يقول: «نحكمكم أو نقتلكم». وطبعاً نجح الأسد وأنصاره نجاحاً باهراً في تحقيق الأمرين معاً، من دون حاجة إلى التورط في الخيارات.
ما يحصل في العراق اليوم داخل ما يسمى «البيت الشيعي»، لا يصل إلى حدود طرح خيارات مماثلة، بين الحكم أو القتل، مع أن سلاح الاغتيال جاهز في أي وقت عندما تصل إمكانات الحلول إلى طريق مسدود. الخيار الذي يطرحه أنصار إيران داخل ذلك البيت مفاده «نحكم البلد أو نشلّه»، ولا تهمّ على طريق تحقيق هذا الشعار نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت قبل عشرة أشهر ولا مسألة الأكثريات والأقليات في المجلس المنتخب، كما لا تهم طبعاً أصوات العراقيين الذين يشكون من سوء إدارة الدولة والفساد الذي يتسع انتشاره في ظل الشلل الحكومي وغياب آليات المحاسبة.
ولأن الخيار هو بين حكم البلد أو شلّ مؤسساته، ومع عجز «الإطار التنسيقي» الذي يوالي معظم أطرافه مصالح طهران عن تشكيل حكومة بمفرده، في وجه القوى المتحالفة والمساندة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، وهي قوى تمثل ائتلافاً بين قوى سنية (محمد الحلبوسي) وكردية (مسعود البارزاني)، أُطلق عليه «إنقاذ الوطن»، كان الخيار الآخر هو تعطيل فرصة تشكيل حكومة تكون فيها للصدر وحلفائه الكلمة الفصل. وكان يمكن لهذه الحكومة أن تحصل على تأييد 155 نائباً (من أصل 329) لكنها كانت ستواجه «الثلث المعطل» الذي يحرمها من حرية اتخاذ القرارات ويتركها رهينة في يد الخصم الفعلي لمقتدى الصدر، رئيس الحكومة السابق نوري المالكي.
استقال النواب الموالون للصدر من البرلمان رداً على تلك التعقيدات. اعتقد الصدر أن الاستقالات ستدفع خصومه للسعي وراءه بحثاً عن تسوية. لكنهم كانوا أكثر دهاءً. إذ استغلوا الاستقالات وقاموا بوضع المرشحين الشيعة الذين جاء ترتيبهم في نتائج الانتخابات في المرتبة الثانية مكان النواب المستقيلين، وعددهم 73 نائباً، وبذلك أُخليت الساحة لهم في البرلمان بطريقة «دستورية» ليفعلوا ما يشاءون في ظل تحكمهم بالأكثرية النيابية، فيما تُرك للصدر خيار اللجوء إلى الشارع لفرض مطالبه. لم يكن قرار الاستقالة من البرلمان أفضل القرارات التي اتخذها مقتدى الصدر، لكنه قرار يتسق مع النهج الانفعالي الذي يتخذ به معظم قراراته.
اليوم يطالب الصدر بحل البرلمان. مطلب يواجه عدداً لا بأس به من العوائق الدستورية: القضاء لا يملك قرار الحل حسب الدستور، ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لا يستطيع أن يطلب من رئيس الجمهورية حل البرلمان لأن صلاحيات الكاظمي كـ«مصرّف للأعمال» لا تتيح له ذلك، والبرلمان الذي يستطيع حل نفسه لن يفعل ذلك، لأن «الإطار التنسيقي» يملك فيه الأكثرية حالياً بعد استقالة نواب الصدر. وبات «الإطار» يدافع الآن عن موقفه بحجة «الحرص على الشرعية الدستورية وسيادة القانون»، بعدما صارت هذه الشرعية تخدم مصالحه الراهنة. فيما يرفع نوري المالكي الصوت داعياً مجلس النواب إلى العودة للانعقاد ومناقشة جميع المطالب، وهو يعرف أن تلبية هذا الطلب تمثل هزيمة للصدر يستحيل أن يقبل بها بعدما رفع سقف مطالبه إلى الحد الأقصى.
مأزق تصادمي ينتهي إلى شلل البلد وخروج إمكانات البحث عن حل من المؤسسات إلى الشارع. وهو الاحتمال الذي صار أكثر واقعية في ضوء الدعوات إلى التظاهر اليوم (الجمعة) في محيط البرلمان العراقي من التيار الصدري و«الإطار التنسيقي». فعلى عكس لبنان، حيث «حزب الله» هو القوة المسلحة الوحيدة القادرة على تعطيل البلد وفرض إرادتها عليه عندما تشاء وبما يخدم مصالحها ومصالح راعيها الإيراني، تتجه الأمور في العراق إلى تعقيدات أصعب، بسبب توزع القوى المسلحة بين التيار الصدري و«الحشد الشعبي»، بحيث يصبح اللجوء إلى الحسم في الشارع أكثر الخيارات خطورة، وبالمقارنة معه يصبح خيار ترك البلد مشلولاً أهون الخيارات.
وسط هذا المأزق يقف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي موقف السياسي الوحيد الداعي إلى الحكمة وتحمل المسؤولية تحت شعار «حوار ألف سنة خير من لحظة اصطدام بين العراقيين». شعار يبدو مثل صرخة في وادٍ بعدما صارت المصالح المتناقضة في الداخل والضغوط الإيرانية عبر الحدود هي التي تتحكم في قرارات مختلف القوى التي تتنازع على السلطة في العراق.
الياس حرفوش
الشرق الأوسط