حذر الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن-قبل الحرب الأهلية الأمريكية عام 1860-“لا بد أن تسقط دولة ومجتمع منقسم”! ما تشهده أمريكا في السنوات الأخيرة يستحضر تحذير الرئيس لينكولن ويدق ناقوس خطر مما يحذر منه البعض باندلاع حرب أهلية بسبب الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي يعززه الخطاب الشعبوي المستفز لليمين المتطرف ضد أغلبية المجتمع المعتدل والليبرالي، ويتجلى ذلك في استهداف وشيطنة الأقليات وخاصة السود والمسلمين ومن أصول لاتينية. وينفخ فيه الرئيس السابق دونالد ترامب بتحريضه جماعته من اليمين المتشدد- بمخاطبته غريزة البيض وتحذيرهم من تآمر الدولة العميقة الممثلة بالاستخبارات ووزارات الدولة وأجهزتها الخاضعة لليسار والليبراليين الذين سيحولون البيض في أمريكا من الزمن لأقلية في بلادهم خلال عقدين. وهو خطاب يقترب من خطاب الفاشيين والنازيين-الذي يشكل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رأس حربة قتاله، لتبرير غزوه لأوكرانيا، لمحاربة وهزيمة النازيين والمتآمرين على الأمة الروسية!
لذلك يشعر الرئيس الأمريكي جو بايدن بخطر تلك الأزمة المتنامية وغيرها. وبصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ومسؤولا عن تعيين قادة أجهزة الاستخبارات الـ17 ويتلقى تقريرا استخباراتيا وأمنيا يومياً عن أبرز القضايا -الأزمات- من مدير الاستخبارات الوطنية المشرفة على جميع جهاز استخبارات في إدارته، ويشرف ويرأس مجلس الأمن الوطني المسؤول عن تحليل وتقديم توصيات في الشؤون الداخلية حول الصراع السياسي الذي يقسم أمريكا والعنف والقتل المتنقل والصراع العرقي الإثني والأزمات الخارجية روسيا وحربها على أوكرانيا وحصار الصين لتايوان، والسيناريوهات والتوصيات في التعامل مع روسيا بوتين وتشي شنغ بنغ الصين. وبرغم ذلك يعقد الرئيس بايدن جولات من النقاش وتبادل الآراء حول تلك القضايا مع أكاديميين ومفكرين وباحثين وإعلاميين بارزين لمقاربات وقراءات مختلفة لا يسمعها من الأجهزة والمسؤولين الرسميين في إدارته.
المؤكد أن الديمقراطية الأمريكية متراجعة وتمر بأزمة حقيقية. ولم يعد يُنظر لأمريكا الدولة الملهمة والراعية والمدافعة الأولى عن الديمقراطيات والحريات حول العالم
تعهد الرئيس بايدن في مؤتمر صحافي، أنه سيسعى في العام الثاني من رئاسة، لعقد لقاءات والاستماع لأكاديميين وكتاب وباحثين من مراكز بحث فكرية وخبراء من خارج إدارته ليحصل على المزيد من المعلومات والنقد البناء لقرارات ومقاربات إدارته، لمختلف الملفات والأزمات، وما على إدارته القيام به وعدم القيام به”!
أوردت واشنطن بوست أن الرئيس بايدن عقد اجتماعاً مع أكاديميين ومفكرين وباحثين في البيت الأبيض مطلع شهر آب/أغسطس الجاري. شمل النقاش عددا من القضايا-والتحديات والأزمات-أبرزها موضوع أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة-وذلك بسبب ما يبدو من تراجع الممارسة الديمقراطية في أمريكا-على خلفية طعن الرئيس السابق دونالد ترامب وتشكيكه بنتيجة الانتخابات الرئاسية عام 2020، التي خسرها بشكل موثق ودستوري-سواء بالتصويت الشعبي والأهم تصويت المجمع الانتخابي. ومع ذلك شكك مع أنصاره في الكونغرس من حزبه الجمهوري ومن أتباعه من المحافظين البيض، معظمهم لا يحملون شهادات جماعية يتبنون نظرية المؤامرة التي يروج لها ترامب بأنه ضحية الدولة العميقة التي زورت الانتخابات ضده ولمصلحة منافسه الرئيس جو بايدن! ويصف الانتخابات بانتخابات دول العالم الثالث وجمهوريات الموز! ويريد إعادة عظمة أمريكا!
نجحت لجنة 6 يناير 2021-المكونة من أعضاء في الكونغرس الأمريكي من الحزبين-الجمهوري (حزب ترامب) والحزب الديمقراطي-بالأدلة والبراهين ومقابلات لمسؤولين سابقين في إدارة ترامب، بُثت على الهواء مباشرة بإثبات تحريض ودفع ترامب أنصاره لاقتحام مبنى الكونغرس- لتعطيل عملية فرز الأصوات لإعلان فوز الرئيس بايدن دستورياً بالرئاسة وخسارة دونالد ترامب- وفي سابقة خطيرة اتهم رئيس أمريكي في السلطة الدولة العميقة بتزوير الانتخابات! وصفه البعض بالانقلاب على الدستور وقوانين البلاد-وبشكل غير مسبوق. ويبقى السؤال هل ستوصي اللجنة بمحاكمة وعقاب ترامب؟!
حسب استطلاع رأي في الذكرى الأولى لاعتداء أنصار ترامب على مبنى الكونغرس، 71% من الجمهوريين لا يقرون أن الرئيس بايدن انتخب بطريقة شرعية! برغم حصوله على 81 مليون صوت مقابل 78 مليون صوت لترامب!
هذه الوقائع تزعزع سمعة ومكانة الديمقراطية الأمريكية في الداخل، وكذلك حول العالم من دولة ونظام لطالما قدمت أمريكا نفسها بأنها المثال والقدوة والمرجع التي تحاضر على دول العالم بأهمية الديمقراطية واحترام القوانين والمشاركة السياسية ونتيجة الانتخابات. وتصدر تقارير سنوية عن حالة الديمقراطية وتقرّع الطغاة والديكتاتوريين الذين يقمعون شعوبهم ويزورون الانتخابات ويعدلون الدساتير للبقاء في الحكم والسلطة وبعضهم مدى الحياة كالرئيس الصيني أو لعقود كالرئيس الروسي! بالإضافة لعدد من الرؤساء والأنظمة المدنية والعسكرية في دولنا العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
تشير مؤشرات بيت الحرية- مؤسسة أهلية أمريكية غير ربحية إلى تراجع الديمقراطية والمشاركة السياسية في أمريكا في عام 2021-وتشريع 19 ولاية من 50 قوانين تقيد مشاركة الأقليات في الانتخابات بشكل متعمد لتعزيز فرص فوز أعضاء مجلس النواب والشيوخ الحاليين والمرشحين من حزبهم بالفوز بعدد أكبر من المقاعد-لأن الأقليات يصوتون عادة وتقليديا للديمقراطيين. كما انخفض تقييم أمريكا في المؤشر إلى 83 من 100! ما يشير إلى أزمة حقيقية في الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية تستوجب إعادة النظر والعمل بشكل جدي لمواجهة هذا المنحى الذي يتكرس بالمزيد من الانقسامات الحزبية يعززها خطاب ترامب وجماعته وأنصاره والذي وصل لحد استخدام القوة والعنف والاعتداء على الكونغرس واتهامات بالفساد والتزوير.
كما أن تمرد الرئيس السابق ترامب وخرقه بشكل متعمد من خلال تجاوزات قانونية بالسطو والاحتفاظ بشكل غير قانوني على وثائق ومستندات فيدرالية بالغة السرية ونقلها من البيت الأبيض لمقر سكنه، بدل من إيداعها في إدارة الأرشيف الوطني كما فعل جميع الرؤساء السابقين، قد يسجن ويمنع من الترشح لمخالفته القانون!
فيما يحرض ترامب أنصاره لارتكاب أعمال عنف ضد أجهزة انفاذ القانون، كعملاء-FBI-الذين فتشوا وصادروا الوثائق السرية من منزله–هاجم أحد أنصار ترامب مكتب التحقيقات الفيدرالي في ولاية أوهايو قبل أيام، ما أدى لمقتله!
أمريكا على مفترق طرق-وتبدو فاقدة لبوصلتها-وتمر بمرحلة خطيرة وحالكة! المؤكد أن الديمقراطية الأمريكية متراجعة وتمر بأزمة حقيقية. ولم يعد يُنظر لأمريكا الدولة الملهمة والراعية والمدافعة الأولى عن الديمقراطيات والحريات حول العالم.. تلك انتكاسة للديمقراطية، وانتصار حقيقي للطغاة والديكتاتوريين!
القدس العربي