تركيا وسوريا: مشاكل سياسة تصفير المشاكل!

تركيا وسوريا: مشاكل سياسة تصفير المشاكل!

فاجأ وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الحاضرين في مؤتمر السفراء الأتراك في أنقرة في 11 آب/أغسطس الماضي بكشفه عن “لقاء خاطف” بنظيره السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع “حركة عدم الانحياز” في تشرين أول/أكتوبر 2021، وهو ما يعتبر أول اتصال دبلوماسي بين تركيا والنظام السوري منذ عام 2011.
المفاجأة الثانية المتمثلة في إعلانه أن “من الضروري تحقيق المصالحة بين النظام السوري والمعارضة، بطريقة ما” أثارت غضبا داخل أوساط المعارضين السوريين للنظام، وبمظاهرات شعبية خرجت في ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب، رددت شعار “لن نصالح”.
أصدرت الخارجية التركية توضيحا لتصريحات الوزير، فُهم كنوع من التهدئة مع الشارع السوري المعارض، وأضاف جاويش أوغلو في 16 الشهر الحالي إن الكلمة الصحيحة هي “توافق” وليس “مصالحة”، لكن تصريحات لمسؤولين كبار آخرين، أخذت السياق باتجاه أوضح، بينهم زعيم “الحركة القومية” دولت باهتشلي، الذي دعا إلى مواقف خارجية “بناءة وواقعية”، مشيرا إلى رفع مستوى العلاقات للتنسيق المشترك في “محاربة التنظيمات الإرهابية”، ونائب رئيس حزب “العدالة والتنمية”، حياتي يازجي، الذي دعا للحوار، وعضو في مجلس القرار المركزي في الحزب نفسه، متين كولونك، الذي أمل بعودة العلاقات “إلى ما كانت عليه قبل 2011″، ورحّب حزب المعارضة التركي الرئيسي “الشعب الجمهوري” بالتصريحات، وكذلك فعل حزبا “السعادة” و”الوطن”.
الزعيم السياسي التركي المخضرم، أحمد داود أوغلو، رأى أن المواقف والتصريحات الأخيرة جاءت “بضغط شديد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد قمة سوتشي” التي جمعته بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان.
تذكّر التصريحات الأخيرة بسياسة “تصفير المشاكل” القديمة، التي كان داود أوغلو نفسه أحد مهندسيها، فأنقرة قامت بالتطبيع مع الإمارات والسعودية، وأعادت العلاقات الكاملة مع إسرائيل، وهي تنفذ سياسة توازن دقيقة، بين روسيا وأوكرانيا، أفضل أمثلتها زيارة اردوغان الحالية لمدينة لفيف الأوكرانية مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، وإشراف انقرة على عودة تجارة الحبوب بين كييف والعالم، وكذلك الحفاظ على العلاقات مع الحلف الأطلسي بالموافقة على دخول السويد والنرويج، وتزويد كييف بمسيّرات بيرقدار الخ. إضافة إلى عامل الضغط الروسي، تمثّل تصريحات المسؤولين الأتراك، من جهة أخرى، هبوطا اضطراريا عن السقف العالي الذي لم تستطع أنقرة اجتيازه، على مرّ السنوات، وهو الحصول على موافقة أمريكية وغربية لدخول عسكري يؤمن “منطقة آمنة” على حدودها، لأن ذلك يصطدم بالسياسة الثابتة الأمريكية بتعهيد مجمل تلك المنطقة إلى حزب العمال الكردستاني، الذي خلق ما يشبه دولة خاصة به تسيطر على أهم الموارد السورية، من نفط وقمح وقطن، وكذلك المواقف الروسية والإيرانية الرافضة لتوسع أنقرة.
تحاول التصريحات الأخيرة أيضا تخفيف الضغوط الانتخابية الشديدة على “العدالة والتنمية” الناتجة عن التذمر الشعبي من التضخم الهائل وانخفاض العملة، وكذلك سحب ورقة اللاجئين السوريين من المعارضة اليمينية التي تحرّض الشارع التركي عليهم، بالحديث عن عودة طوعية لهم كبديل عن الطرح غير الممكن، حاليا على الأقل، بموضوع السيطرة على الشمال و”تخليصه من الإرهابيين”.
يظهر التصعيد العسكري الأخير، الذي كان الأكبر، بين تركيا والنظام السوري منذ سنتين، وفي منطقة كانت خارج التداول الحربي، وهي عين العرب، حيث تعرضت مواقع للنظام و”ميليشيات إيرانية” للقصف بطائرة حربية، إشارة إلى بعض العوائق التي تفصل التصريحات عن الواقع.
يعلم المسؤولون الأتراك، أيضا، علم اليقين، أن النظام السوري، حين يتعلّق الأمر بمواطنين تحت سيطرته، أو عائدين إليها، غير قادر بطبيعته الوحشية، على الالتزام بأي تعهدات، وأن أغلب السوريين، وخصوصا في المناطق “الموالية” يرغبون في مغادرة البلاد، وليس في البقاء فيها، أو العودة إليها.
النظام الذي لم يقدم أي تنازل يذكر، حتى في موضوع الدستور السوري، عبر المفاوضات الطويلة التي كانت تركيا طرفا فيها عبر السنين الماضية، والذي تعامل مع الانفتاح الأردني عليه بمحاولات اختراق الحدود عبر عصابات المخدرات المسلحة، هو نظام لا يمكن التعويل عليه، والعلاقة معه ستتسبب بمشاكل أكثر بكثير من المشاكل التي ستقوم بحلها.

القدس العربي