إذا صحت التقارير عن موافقة طهران على «تسوية نهائية» اقترحها الاتحاد الأوروبي لإحياء اتفاق 2015 حول البرنامج النووي الإيراني، وبافتراض أنّ الصيغة الأوروبية لم تكن أصلاً بعيدة عن استئناس بالرأي الأمريكي يصحّ وضعه في مصافّ التنسيق الوثيق؛ فإنّ حصيلة الشدّ والجذب التي استغرقت جلسات مطوّلة شاقة بين جنيف والدوحة وفيينا لن تسفر، حتى إشعار آخر يثبت العكس، عن انتصار مشهود للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وفريقه، ويجوز بالتالي أن تُحتسب حصيلة عجفاء هزيلة.
في صياغة أخرى، ما كان فريق الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، خاصة وزير الخارجية محمد جواد ظريف صاحب الشخصية الضاحكة المرنة، قد مهّد له طيّ بنود «خطة العمل الشامل المشترك» مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، ثمّ الولايات المتحدة في الخلفية غير المباشرة؛ هو، على أكثر من وجهة تخصّ العقوبات والاقتصاد والنفط وتخصيب اليورانيوم، نسخة مستعادة من الاتفاق الوشيك الذي اقترحته أوروبا وتبدو إيران موشكة على القبول به. مع تعديلات «تجميلية» هنا وهناك، بالطبع، لا تطمس مع ذلك قسطاً غير قليل من خسائر إيران: عزل «خطة العمل» الجديدة عن ملفات أثيرة لدى طهران، مثل شطب الحرس الثوري الإيراني من لائحة الإرهاب الأمريكية، والإبقاء على مؤسسات «الحرس» المالية والاقتصادية تحت طائلة العقوبات، والامتناع عن تقديم ضمانات بأنّ أيّ رئيس أمريكي مقبل لن يمتلك حقّ الانسحاب من الاتفاق.
ما كُشف عنه النقاب حتى الساعة من التفاصيل العملية للاتفاق المرجّح، وهي في توصيف آخر الثمار التي سوف تجنيها طهران منه، تتحدث عن تحرير 17 مصرفاً و150 مؤسسة اقتصادية من العقوبات، ورفع التجميد عن 7 مليارات دولار من ودائع إيران المجمدة في كوريا الجنوبية، والسماح بتصدير 2,5 مليون برميل نفط يومياً بعد 120 يوماً من توقيع الخطة الجديدة. سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني في المنطقة، ابتداء من اليمن والعراق وليس انتهاء بسوريا ولبنان؛ فضلاً عن برامج التسلّح الإيرانية، خاصة في قطاع الصواريخ بعيدة المدى؛ ليست بنوداً صريحة التحديد بالطبع، لكنها في صلب التفاهمات الضمنية أو ما قد ينقلب إلى «ملاحق» غير معلَنة.
ومع ذلك، قد يتوفر أكثر من اعتبار خلف استعداد حكومة رئيسي، والمرشد الأعلى علي خامنئي شخصياً، لقبول الصفقة المطروحة، وذلك على صعيدَين في الحدّ الأدنى. الأوّل أنّ إبرام الاتفاق لن يمسّ، إنْ لم يعزّز، أجندات التدخل الإيراني الخارجي لصالح الطغاة وأنظمة الاستبداد والفساد، وخدمة مبدأ «تصدير الثورة» الإسلامية، وتمدّد الوجود العسكري والأمني والمذهبي الإيراني هنا وهناك في المنطقة. والثاني، الأخلاقي والإنساني، هو أنّ الإفراج عن عشرات المليارات المجمدة، وتمكين الاقتصاد الإيراني من الانعتاق في قطاعات شتى، سوف ينتهي أيضاً إلى التخفيف من مشاقّ الحياة اليومية ومصاعب العيش وسلسلة المشكلات البنيوية التي تثقل كاهل المواطن الإيراني في المقام الأوّل، وربما الحصري أيضاً.
وإذْ لا ينتظر المرء، أو كما علّمت تجارب الماضي، أن يذعن آيات الله ومتشدّدو السلطة في إيران لمقتضيات الصعيد الثاني، مقابل انغماسهم أكثر فأكثر في تفضيل الصعيد الأوّل؛ فإنّ ضرورات الاقتصاد القصوى تبيح بعض محظورات التعنت خلف رفض القبول بمشروع الاتفاق الجديد، عملاً بالقاعدة القديمة التي تشير إلى إذعان مُكرَهٍ لا بطل. وكان الإمام الخميني نفسه سباقاً إلى الأخذ بقاعدة أخرى مماثلة، حين أعلن قبل 34 سنة أنه تجرّع «كأس السمّ» حين وافق على وقف إطلاق النار مع عراق صدّام حسين.
وقد لا يكون ما تعاقد عليه روحاني سنة 2015، ويضطرّ رئيسي إلى استئنافه اليوم معدّلاً أو حتى منتقَصاً، من طراز السمّ القديم أو لا يقتضي الترياق إياه؛ الأرجح أنه، إلى هذا وذاك، جرعة محتومة لا مهرب منها، ولا مفرّ.
القدس العربي