الصين الواحدة“، في كلمتين يختصر الحزب الشيوعي الصيني كل استراتيجيته الإقليمية واستعمالها كتبرير تاريخي وأخلاقي في مطالبته بضمّ جزيرة تايوان ذاتية الحكم منذ أن فرّ القوميون الصينيون بعد هزيمتهم من قبل قوات ماو تسي تونغ في الحرب الأهلية الصينية سنة 1949.
ويبدو مصطلح “الصين الواحدة” من خلال المقاربة اللسانية – الحضارية التي اختزنتها البشرية، ملتصقاً بالمفاهيم الجيوسياسية التاريخية التي قامت عليها الصين كإمبراطورية قامت على الربع الجنوبي الشرقي الأخير من القارة الأوراسية.
ولعل هذا المعجم الذي بدأ بإيجاد طريقه للخطاب السياسي الرسمي الصيني منذ صعود الرئيس شي جين بينغ لسدة الحكم في دواليب الحزب الشيوعي الصيني سنة 2013، وانطلاق استراتيجية جديدة تعكس الصعود الصاروخي لنمو الاقتصاد الصيني للمطالبة بدور سياسي أكبر، بعد أن كانت الصين في فترة الرئيس السابق هو جينتاو تكتفي بموقع “القوة الناعمة” كمبدأ أساسي من مبادئ السياسة الخارجية الصينية، التي ركزت على “تأميم السياسة” مرتكزة في سلطات الحزب الشيوعي، و”ليبرالية” الاقتصاد، وخاصة في ما يتعلق بالمعاملات التجارية مع الخارج، وسيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي في الداخل.
واليوم أصبحت “الأرض الوسطى” (الترجمة العربية لكلمة الصين أو china) تنتشر في الأرض اقتصادياً مقابل بروز الرغبة للذهاب بعيداً عن سياسة التقوقع ضمن البر الرئيسي والخروج من انغلاق دام قروناً كثيرة، إلى فضاء حيث يمكنها رسم خطوط جديدة لـ”فضائها الحيوي” الإقليمي، الذي تطالب بالسيادة عليه بداية بالبحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى مرتفعات جبال الهمالايا التي تطالب ببعضها من الهند، وكذلك في بحر الصين الشرقي حيث تتشابك مع اليابان على سيادة بعض الجزر.
“التنين” والارتداد غرباً
وبمقاربة جيوسياسية، أصبحت الصين ترنو إلى الخروج من “إطار القارة” إلى خارج إطارها، من حدودها التي تحددت منذ زمن بعيد، إلى إطار آخر، تفرض خلاله دوراً سياسياً يوازي دورها الاقتصادي، كثاني اقتصاد للعالم، ما بدأ يعطي معالم “زمن عالمي جديد” ليس كالزمن السابق، الذي خرجت منه الصين من مرحلة “الثورة الثقافية” وسياسات “الخطوة الكبيرة للأمام”، والذي فرض الانغلاق كخيار من ماو تسي تونغ طوال عقدين، إلى سياسات الانفتاح على “الآخر” منذ حياكة وزير الخارجية الأسبق هنري كسنجر للعلاقات بين واشنطن وبكين وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لبكين سنة 1972، وهي الزيارة التي يبدو أنها أخرجت “التنين” من سباته العميق، بعد أن تغيرت السياسات الاقتصادية الصينية من الانغلاق والعيش على كفاف الإنتاج الزراعي نحو التصنيع الثقيل وفتح المجال أمام الاستثمارات الخارجية التي نتج منها نمو التنين الذي أضحى يفكر في نفث نيرانيه في بحر الصين الجنوبي، والتي قد نشهد فيها أول استعمالات الصين لاستراتيجية “القوة الصلبة” بعد سنوات “القوة الناعمة”، التي طوعت بها عديد الدول البعيدة عنها والمتمركزة أساساً في أفريقيا وجنوب آسيا كسريلانكا، وتوجهت بعدها لتشمل دولاً أخرى في أوروبا، وخاصة في دول البلقان كصربيا واليونان المتأثرتين بجراح الأزمة المالية العالمية لسنة 2008.
لقد كانت زيارة نيكسون، في ذلك الوقت، بداية استيقاظ التنين من سباته، حتى أضحى اليوم يسعى لإعادة تموضعه في مواجهة الأحادية القطبية الأميركية التي فرضت بمنطق أفول عصر الصراع الأيديولوجي بين معسكر الشيوعية الماركسية اللينينية والمعسكر الليبرالي الغربي الديمقراطي، ليعاد رسم خريطة صراع جوهره الأساسي اقتصادي ليبرالي متوحش يؤمن بالإمبريالية (التمدد الإمبراطوري)، وهذا مصطلح فرض وجوده مع التوجهات الجيواستراتيجية لكلتا القوتين المنتصبتين اليوم على رأس خريطة الصراع في العالم، الصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى.
القوة الأولى، وهي الصين، ترى أن ترددها غرباً لن يتحقق بعيداً عن ضمان أمن المجال الحيوي القريب منها، وهذا أبسط فهم لنظريات الأمن القومي التي تتحدث عن أنه “لضرب المركز يجب ضرب الأطراف”، وبالتالي فهي تسعى لحماية المركز من خلال تحقيق سلطة على “الأطراف”، فحماية “الأرض الوسطى” لن تتحقق بعيداً عن ضمان ولاء المجال الجيوسياسي القريب من الحدود الأساسية لإرادة السلطة السياسية في بكين.
صحيفة العرب
وبطريقة أخرى، للصين التصور نفسه للإمبراطورية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية، إذ كانت ترى أن الامتداد عالمياً ودولياً لن يتحقق إلا بضمان النفوذ الإقليمي، وهو ما تحقق في مراحل عديدة من التاريخ على حساب الأراضي الصينية في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت الصين تعيش “عصر الإهانة” بعد قرن الأفيون الذي خدّر كل أطراف التنين بفعل التجارة البريطانية والغربية لهذه المادة في الصين، وتجلت هذه الإهانة مجدداً في “ثورة الملاكمين” التي عرفتها الصين في سنة 1900 والتي انتهت بفرض 8 دول لسياساتها على الصين (بريطانيا، الولايات المتحدة، أستراليا، ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا واليابان).
تبدو كل هذه الأحداث مرتسمة في ذهن تشي جين بينغ، فما كان منه إلا أن استدعى زمن ما قبل الإهانة (ما قبل القرن التاسع عشر)، وأعاد تشكيل السياسة الصينية، ومن هناك برز شعار “الصين الواحدة”، وأخذ تشي يبدو كأنه إمبراطور الصين الأول، تشين شي هوانغ، مؤسس أسرة تشين الذي فرض الوحدة على كل الأراضي الصينية بعد سنوات الصراع والحروب الأهلية سنة 221 قبل الميلاد.
ذلك الإمبراطور الذي مات متأثراً بمرض نفسي نتيجة بحثه المستمر عن “إكسير الحياة”، يستهوي ماضيه القيادة الصينية الحالية.
“الريم لاند”
الولايات المتحدة، من جهتها، ترى أن “ارتدادها شرقاً” لـ”احتواء التنين”، يفسر من خلال كونها تسعى للحفاظ على قطبيتها وزعامتها للعالم، وخاصة علوية النموذج الغربي السياسي والحضاري، وكذلك مصالحها الاقتصادية، تلك المصالح التي ترى الولايات المتحدة أنها الحجر الأساس في مقاربتها لمواجهة الصين، انطلاقاً من حزم العقوبات المفروضة على الشركات القريبة من بكين، وكذلك من خلال إعادة توزيع قواتها العسكرية في جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وانطلقت في ذلك من خلال نموذجي حلف “أوكوس” الأمني الذي يجمع 3 دول أنغلوساكسونية إلى جانب واشنطن، وهما بريطانيا وأستراليا، إضافة إلى حلف “كواد” (الحوار الأمني الرباعي) الذي يجمع 4 دول، هي الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند.
هذه التحالفات تأتي ضمن رؤية جيوسياسية تسيطر على القرار الأميركي منذ العقد الخامس من القرن الماضي، وهي النظرية التي تسمى “الريم لاند” والتي قدمها إلى العالم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ييل، نيكولاس سبيكمان، الذي منح المنطقة الممتدة من الجزيرة العربية وحتى الصين أهمية قصوى في تحديد السياسة الدولية.
واختصاراً، يرى سبيكسمان أن “الريم لاند هو ذلك النطاق الساحلي الذي يشمل كل أوروبا -عدا روسيا- والجزيرة العربية، بما في ذلك العراق وآسيا، والصين وشرق سيبيريا”.
ورأى أن هذه المنطقة (التي تسمى كذلك الإطار الهامشي) منطقة بمثابة منطقة حاجزة تفصل بين القوى المتصارعة البرية والبحرية، في زمن السلم، كذلك تعتبر منطقة التقاء وتصادم بين القوى البحرية والبرية في زمن الحرب.
واهتم سبيكسمان بهذه المنطقة التي تضم عدداً ضخماً من سكان العالم، وأنه يمتاز بموارده الاقتصادية والطبيعية الغنية المتنوعة، علاوة على استخدامه لطرق بحرية داخلية.
من خلال هذه النظرية، يمكن معرفة كيفية تحرك السياسة الخارجية الأميركية. هنا نرى أن الصين قوة برية تسعى لأن تصبح قوة بحرية، والولايات المتحدة القوة البحرية التي تريد كبح جماح تكوّن هذه القوة، وبذلك هي دائماً ما تسعى لأن تكون هناك ذريعة سياسية لكي ترسم من خلالها استراتيجيتها لاحتواء أي قوة موجودة ضمن هذا الفضاء الجيوسياسي المتمثل بالريم لاند.
هذه المنطقة هي المنطقة نفسها التي تستهدفها الصين من خلال استراتيجية طريق الحرير، وهذا يعني أن ذلك قد يعرض المصالح الأميركية للخطر، خاصة أن الصين إذا ما مدت سيادتها فعلياً على بحر الصين الجنوبي، بما فيه مضيق تايوان، ستحدد مستقبل ثلث المبادلات التجارية في العالم، وإذا ما استكملت هذه الاستراتيجية، فذلك يعني أن واشنطن ستكون أمام خسارة أغلب مصالحها في العالم.
اليوم بات “الصراع البارد” بين الولايات المتحدة والصين واقعاً، وباتت منطقة الريم لاند، حسب سبيكسمان، أو لنقل الجزء الشرقي للإطار الهامشي، هو المحدد القادم لمستقبل التاريخ البشري، وبدأت أولى ملامحه الجيوسياسية متمثلة بالتوتر الموجود في مضيق تايوان، وذلك بعد سنوات منذ أن بدأت حرب التجارة بين واشنطن وبكين منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.