لماذا ستهتم الإدارة الأميركية بلبنان إذا كانت لا تبدي الاهتمام الكافي بالعراق؟
كان العراق هدفاً ومركزاً للاهتمام الأميركي منذ عقود طويلة، طاردته وحاصرته عندما غزا الكويت، ثم أجهزت على نظامه عام 2003 وعينت له حاكماً عسكرياً قبل قيام سلطة محلية أمسك بها أنصار إيران إلى حد شاعت معه تحليلات عن تواطؤ ما بين واشنطن وطهران يقضي بتسليم بلاد الرافدين إلى إيران .
قد لا تكون تلك التحليلات دقيقة لكن الوقائع لا تدحض، فالغزو الأميركي لبلد شن حرباً مديدة ضد نظام الملالي أسس لهيمنة ذلك النظام على العراق عبر سلسلة من التدخلات مستنداً إلى الانقسام الطائفي والمذهبي وإلى حجم حضور الطائفة الشيعية في المجتمع والسلطة.
لم تظهر الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس باراك أوباما اهتماماً جدياً بالبلاد التي تتولى مسؤولية احتلالها من أجل “دمقرطتها” حسب بيانات واشنطن، وبان الانسحاب العسكري هدفاً في حين كان نوري المالكي المتهم بطائفيته وولائه الشديد لإيران يتولى رئاسة الحكومة منذ 2006 إلى 2014 ليتوج مسيرته بتسليم الموصل وأجزاء واسعة من البلاد إلى تنظيم “داعش” الإرهابي الذي سيعطي ظهوره دفعاً جديداً للتدخل الإيراني وقيام منظمات “الحشد الشعبي”، الذراع العسكري للميليشيات الموالية لإيران.
أسهمت الولايات المتحدة بفاعلية في دحر “داعش” في العراق وسوريا، لكنها واصلت سياسة المغادرة وترك الساحة لإيران، واليوم إذ يغرق البلد في أزمة سياسية صار عمرها عشرة أشهر بسبب رفض أنصار إيران الانصياع لإرادة الناخبين العراقيين الذين أعطوا مقتدى الصدر أغلبية نيابية في الانتخابات وتفاعلوا بقوة مع الانتفاضة الشعبية في خريف 2019، تبدو الديمقراطية التي بشرت بها الولايات المتحدة طويلاً ممنوعة في ما يتساءل كثيرون، أين أميركا وماذا تريد؟.
يستعرض ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق في مقال نشره “معهد واشنطن” الغياب الأميركي عن تطورات الوضع في العراق، فيقول إن “غياب انخراط إدارة أميركية رفيعة المستوى في محاولات العراق تشكيل حكومة بعد الانتخابات لم يكن مجرد إغفال غير مقصود، بل قراراً متخذاً عن سابق تصور وتصميم، وتظهر السجلات العامة أن كبار المسؤولين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي لم يزوروا العراق سوى مرتين”.
في المقابل، زار قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” (الذي تصنفه الولايات المتحدة منظمة إرهابية) العراق ما لا يقل عن عشر مرات خلال الأشهر الأخيرة “لجمع حلفائه وتهديد خصومهم”. وبالطبع ليس لدى أميركا القدرة على ممارسة الأسلوب نفسه انطلاقاً من حسابات طائفية أو مذهبية، لكن لديها كثيراً من الإمكانات العسكرية وفي السياسة والمال والاقتصاد لفعله من أجل حفظ التوازن ومنع انزلاق العراق مرة أخرى في التدمير الذاتي الذي يسهل إلحاقه به أو ببعض أجزائه بنظام المرشد الإيراني.
ما يقال عن سلوك الإدارة الأميركية تجاه العراق يمكن قوله عن سلوكها تجاه لبنان، ففي 1983 كانت آخر محاولة أميركية للحضور العسكري في لبنان، وانتهت على يد انتحاريي “الحرس الثوري” الإيراني، ومنذ تلك اللحظة والتأثير الأميركي في هذا البلد يتراجع، فيما يزداد تخبط أحزابه وتياراته وطوائفه، وتنمو أشكال متنوعة من النفوذ الأجنبي أبرزها، على مدى العقدين الماضيين، النفوذ الإيراني.
لقد حافظ لبنان في أقسى لحظات الانقسام الدولي على توازن ما اعترف بقيمته في حينه الاتحاد السوفياتي والغرب عموماً، لكنه الآن بات مصنفاً تحت النفوذ الإيراني، وأرضه منصة مركزية لمشاريع محور الممانعة الإيراني .
ليست أكثرية اللبنانيين موافقة على هذا التصنيف، وقد عبرت عن ذلك في انتفاضة 2019 ثم في الانتخابات المقننة على قياس أركان السلطة الأبديين، ومع ذلك يبدو الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي مستحيلاً فيما تشتد قبضة التحالف الإيراني على البلاد. لقد كانت انتخابات لبنان مثل انتخابات العراق مجرد تمضية وقت على طريق إمساك القوى غير الديمقراطية بالسلطة.
طوال الأزمة اكتفت الإدارة الأميركية بالمراقبة وببيانات عامة، وخلال تفجير بيروت الذي اعتبر ثالث أكبر تفجير غير نووي يشهده العالم كان غريباً ومستغرباً مستوى الاهتمام الأميركي الذي سينصرف لاحقاً إلى ملاحقة “حركة النمل” على أرض أوكرانيا، ورداً على المحروقات الإيرانية التي أدخلها “حزب الله” إلى لبنان، خرجت الإدارة بصيغة استجرار الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا، لكن لم يتحقق شيء بعد أكثر من سنة، في حين تخترق الوعود الإيرانية بتأمين الطاقة أسماع الذين يعانون بشكل لا مثيل له من أزمات تبدو الكهرباء في صلبها .
لا يمكن وصف هذا المسار الأميركي في العراق ولبنان سوى بكونه انسحاباً فعلياً كما في أفغانستان، وكما في ترك الحوثي والمسيرات الإيرانية يتوغلان في الجزيرة والخليج، والاتفاق النووي في حال تمت العودة إليه سيزيد من رغبة إيران وقدرتها على تثبيت دعائم نفوذها، وقد حرصت عشية المفاوضات النهائية على توجيه رسائل إلى القاعدة الأميركية في التنف، لا يكفي لمنع تكرارها وتعميمها في المستقبل الرد العسكري الأميركي السريع.
لم تستند إيران في مشروعها الإقليمي إلى قدرتها في التخصيب النووي، بل إلى عاملين آخرين، الأول قدرتها على التخصيب المذهبي وتمزيق المجتمعات العربية، والثاني السلوك غير المفهوم (على الأقل) للإدارة الأميركية التي سلمت العراق للإيرانيين وتكاد تفعل الأمر عينه في كل المشرق العربي الممزق .
اندبندت عربي