ليس من المقدر انتهاء الأزمة السياسية في العراق عن طريق التسويات التقليدية، وعلى العكس فإن التصعيد يبدو وكأنه يتحول إلى أمر نمطي مستمر، بنهايات تبدو على الأغلب غير ودية، وربما عنيفة.
ومع الاعتصام الذي حصل أمام مقر مجلس القضاء الأعلى، يوم الثلاثاء 23 أغسطس/آب، يكون التيار الصدري قد بدأ عمليًّا بمواجهة مع السلطة القضائية بعدما تمكن من تعطيل السلطة النيابية بالاعتصام المستمر في باحة مجلس النواب. صحيح أن الاعتصام انتهى في اليوم ذاته، وعاد القضاء عن قراره الذي استمر لساعات بتعليق أنشطة المحاكم كافة، إلا أن تبعات ما حصل لن يقدر لها أن تنتهي سريعًا، لاسيما مع أوامر اعتقال ومصادرة أموال صدرت في نفس اليوم بحق مسؤولين في التيار الصدري اعتُبروا مسؤولين عن التحريض ضد القضاء.
يوم الثلاثاء الماضي، أصبحت حكومة تصريف الأعمال، ولساعاتٍ عدَّة، السلطة الوحيدة التي ظلت تعمل في البلاد، وهي حكومة بلا أساس تشريعي ولا صلاحيات تنفيذية حقيقية، ويمكن أن تصبح قريبًا بلا شرعية تمثيلية، بعدما ازدادت الاتهامات لها بالتواطؤ مع الصدريين في (اعتدائهم) على السلطتين، التشريعية والقضائية، وعدم القيام بما يلزم لحماية المؤسسات السيادية والحكومية، وهو ما تضمنه بشكل واضح بيان مجلس القضاء الأعلى خلال ساعات الاعتصام أمام مقره.
يأخذ الصدر على مجلس القضاء الأعلى أنه لم ينفذ طلبه بحل البرلمان، بعدما انقضت جميع المهل الدستورية دون نجاح في اختيار رئيس جمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وتتهم منشوراتُ شخصياتٍ محسوبة على الصدريين، القضاءَ بالانحياز للإطار التنسيقي، ومنحه فرصة منع التيار الصدري من نيل استحقاقه الشرعي بتشكيل الحكومة بعدما كان الطرف الفائز بشكل كبير في الانتخابات.
جوهر الأزمة
تعود الأزمة الراهنة في العراق إلى مشكلات بنيوية جوهرية، تبدأ من بناء قوات الاحتلال الأميركي لسلطة قائمة على أساس تقسيمي بين المكونات الطائفية والعرقية، مرورًا بكتابة دستور منتج للأزمات ملئ بالثغرات يحتمل تفسيرات متناقضة، وليس انتهاء بسلسلة طويلة من الفشل السياسي والانهيارات الأمنية وشيوع الفساد وسطوة القوى الموازية للدولة من ميليشيات مسلحة، وشبكات اقتصادية وإجرامية متعددة الأشكال، فضلًا عن انفتاح البلاد للتدخلات الأجنبية بشكل واسع.
تسببت هذه المشكلات البنيوية في ترهل مفهوم الدولة، وتراجع قدرتها على السيطرة على الإدارات المختلفة، ناهيك عن فشلها في احتكار السلاح والعنف، وتكريس ظاهرة الزبائنية بوصفها جوهر النظام السياسي، ومنها نتجت ظاهرة الفساد التي توسعت لتصبح نمطًا إداريًّا ثابتًا أدى بوزير المالية المستقيل في حكومة الكاظمي، علي علاوي، ليقول في رسالة استقالته بتاريخ 18 أغسطس/آب 2022: “أعترف أني لم أتوقع التدهور المروع في معايير الحوكمة في بلدنا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. كل شيء تقريبًا يتآمر لإحباط التغيير الحقيقي وترسيخ استمرار الممارسات الفاسدة التي تدمر الأسس الأخلاقية والمادية للبلد”، ثم يضيف: “تعمل شبكات سرية واسعة من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة. هذه الشبكات محمية من قبل الأحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الأجنبية، وإنها تحافظ على صمت المسؤولين الأمناء بسبب الخوف والتهديد بالقوة. لقد وصل هذا الأخطبوط الهائل من الفساد والخداع إلى كل قطاع من قطاعات اقتصاد الدولة ومؤسساتها، ويجب تفكيكه بأي ثمن إذا كان مقدَّرًا لهذا البلد أن يبقى على قيد الحياة”.
ووزير المالية المستقيل (75 عامًا)، الذي ترك العراق بصحبة عائلته منذ عام 1958، هو أحد مؤسسي النظام السياسي في العراق بعد الاحتلال، فقد أسهم في كتابة (بيان شيعة العراق)، عام 2002، وترك عمله في البنك الدولي ثم في جامعة أوكسفورد ليصبح أول وزير للدفاع في مرحلة مجلس الحكم الانتقالي، عام 2003، بعد الغزو الأميركي، ثم وزيرًا للمالية، عام 2005، في حكومة إبراهيم الجعفري، واستنادًا لكلٍّ من علاقته بهذا النظام السياسي وتفصيلاته وأركانه، وطبيعة خبراته الأكاديمية والعملية الدولية العميقة، تبدو ملاحظاته الخطيرة توصيفًا ذا دلالة بالغة للحال الذي بلغه العراق وجوهر الأزمة التي وصلها، والتي تؤسس لما بعدها.
التيار والإطار
يصف التيار الصدري إجراءاته بأنها (ثورة إصلاحية)، وقد اختار مناسبة الاحتفال بذكرى يوم عاشوراء الأبرز والأكثر رمزية لدى الشيعة ليبدأ تحركاته على الأرض باقتحام مبنى مجلس النواب في الثلاثين من يوليو/تموز الماضي والاعتصام بداخله، ثم في باحاته الخارجية، وتعطيل جلساته منذ ذلك الحين.
تزامنت سيطرة المتظاهرين على مجلس النواب مع جلسة للمجلس كانت مقررة في نفس اليوم للتصويت على اختيار رئيس للجمهورية وتكليف مرشح الإطار التنسيقي لمنصب رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، وكان واضحًا أن التحرك الصدري جرى تحديدًا لمنع انعقاد الجلسة، ووقف إجراءات تشكيل حكومة جديدة اعتبرها معادية له، ويراد تمريرها على حسابه.
يعتبر التيار الصدري أن الإطار التنسيقي (كلاهما من الشيعة) قد اعتدى على حقه بتشكيل الحكومة بوصفه الفائز الأكبر في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، ويرى التيار أن المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى وفَّرا للإطار تفسيرات قانونية تناسبه، وتمنحه قدرة تعطيل جلسات مجلس النواب لتكليف المرشح الصدري في حينه لرئاسة الحكومة، وكان ذلك وراء اتهامه المتكرر للسلطة القضائية بالانحياز وعدم العدالة.
والإطار التنسيقي هو تحالف بين عدة قوى شيعية تشكَّل بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول لمواجهة طموحات التيار الصدري، وقد نشأ منذ ذلك الوقت خلاف انتهى بانقسام حاد كان جوهره مطالبه التيار بحكومة أغلبية تجمعه مع حليفيه من أكبر كتلة سُنية وأخرى كردية، مقابل مطالبة الإطار بتشكيل حكومة توافق يشارك فيها الجميع، وأن تكون الكتلة (الشيعية) مجتمعة مسؤولة حصريًّا عن تسمية رئيس الوزراء دون مشاركة من مكونات أخرى.
لم يُحَلَّ هذا الخلاف برغم شهور من الوساطات الداخلية والخارجية؛ حيث دأب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على رفض حكومة التوافق، فيما واصلت قوى الإطار تمسكها بمطلبها، واستخدمت تفسير المحكمة الاتحادية الخاص بجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، لتعطيل انعقاد مجلس النواب؛ الأمر الذي دفع الصدر، في التاسع من يونيو/حزيران الماضي، إلى دعوة نواب كتلته (73 نائبًا) إلى كتابة استقالاتهم، وهو ما تم بالفعل، وانسحبت أكبر كتلة في البرلمان؛ الأمر الذي قابله الإطار التنسيقي بترحيب، حيث أصبح الممثل الحصري للمكون الشيعي، ولاحت له فرصة أن يكون الكتلة الأكبر في مجلس النواب ويتولى تسمية رئيس الوزراء الجديد، وهو ما قام به بالفعل حينما كلف محمد شياع السوداني، وهو وزير سابق ومحسوب على حزب الدعوة وكتلة دولة القانون بزعامة نوري المالكي قبل استقالته من الحزب عام 2019.
خلاف شخصي
يعود جزء جوهري من الأزمة الراهنة إلى خلاف شخصي بين الصدر والمالكي، بدأ منذ العام 2008 حينما قام المالكي، وكان حينها رئيسًا للوزراء، بتوجيه الجيش والشرطة للقضاء على ميليشيا جيش المهدي الصدرية في بغداد ومدن جنوب العراق، وقد جرت معارك استمرت نحو ثلاثة أسابيع سقط فيها مئات الأشخاص، وانتهت بتجميد الصدر لجيش المهدي، وبانتهاء فاعليته العسكرية.
لم تتحسن العلاقة بين المالكي والصدر من ذلك الحين، وزادها سوءًا بعد استقالات النواب الصدريين تسريب تسجيل صوتي يتضمن اجتماعًا للمالكي مع قيادات إحدى الميليشيات في محافظة ديالى شمال شرقي بغداد، وفي هذا الاجتماع، وصف المالكي التيار الصدري بشتى الأوصاف السيئة، وتوعد في حال تسلمه السلطة بتوجيه حملة عسكرية ضد الصدر في مقره بالنجف والقضاء عليه، وزاد في حدة غضب الصدر، أن القضاء لم يتعامل بجدية مع الشكاوى التي قُدِّمت له ضد المالكي، واتهامه بتهديد السلم الأهلي والاحتكام للسلاح بوجه الدولة، والتخطيط للقتل، واتهم القضاء بتمييع القضية، ومحاولة (دفنها).
وبالطبع، فللصدر خلاف شخصي آخر، وإن كان أقل شأنًا، مع كل من زعيم تيار الحكمة، عمار الحكيم، ورئيس ميليشيا العصائب، قيس الخزعلي، وقد دأبت منشورات الصدريين على وصفهما إلى جانب المالكي بـ(الثالوث المشؤوم) ضمن الإطار التنسيقي، المؤلَّف من خمس كتل سياسية شيعية، فيما اعتُبر كل من زعيم تنظيم بدر، هادي العامري، ورئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، شخصيتين معتدلتين.
الأفق المتوقع
من العسير توقع انفراج الأزمة الراهنة بتسوية تقليدية تتضمن تنازلات متبادلة، فقد فرضت الأحداث واستخدام الشارع من قبل طرفي الصراع نمطًا من الاستقطاب الحاد على مستوى القواعد الشعبية، فضلًا عن تغلب العداء الشخصي على المصالح السياسية، وغياب وجود المرجعية السياسية أو القانونية التي يمكن الاحتكام إليها، أو الثقة بقرارها. تسبب كل ذلك، في انهيار الآليات المنظمة للعمل السياسي، أو بكلمة أدق انهيار ما تبقى منها، على اعتبار أن القوانين الحاكمة والمنظِّمة للوضع الداخلي أمنيًّا وسياسيًّا وقانونيًّا، تعاني بالأصل من خلل جسيم بسبب ضعف الدولة، والفساد، وانتشار المجموعات المسلحة، وسطوة الأحزاب، والتأثيرات الخارجية الواسعة.
وما زاد الأمر سوءًا، أن الاعتصام المحدود أمام مجلس القضاء الأعلى، وصدور أوامر القبض بحق قادة صدريين، سيكرِّس المؤسسة القضائية بوضعها الحالي، كطرف خصم للتيار الصدري، والعكس صحيح، وهو ما يجعل القضاء طرفًا في الأزمة، لا حكمًا فيها، كما يُفترض، لاسيما أنه متهم من قبل بتجاهل الكثير من القضايا الكبرى مثل سقوط الموصل ومجزرة سبايكر والاتهامات ضد الميليشيات المسلحة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقضايا الفساد الكبرى.
ولأن المواقف الراهنة هي في غالبيتها ذات طابع شخصي لا مؤسسي، فمن العسير توقع ما يدور في أذهان القيادات ذات التأثير في الأحداث، لاسيما زعيم التيار الصدري، الذي غالبًا ما يكون هو المبادر بالأحداث منذ اقتحام مبنى مجلس النواب، لكن السلوك النمطي للأطراف المختلفة يوحي بأن التصعيد قد يستمر ولكن على مستويات أكبر وأوسع هذه المرة.
وقد صدر من (وزير القائد) وهو شخصية غير معروفة تنطق باسم الصدر، أن الأخير يمكن أن يعلِّق عمل لجنة تنظيم الاحتجاجات، وأن يترك للشعب الاحتجاج كما يريد، وفي هذا التنويه، تهديد واضح بأن الصدريين ومن يناصرهم سيقومون بما يريدون دون قيادة مباشرة، ولذلك فليس من المتوقع (فليس من المستبعد) أن تتسع دائرة أهدافهم لتشمل مؤسسات حكومية جوهرية في جنوب العراق بشكل خاص، مثل المعابر الحدودية مع إيران، والمنشآت النفطية، والموانئ والمطارات والقصور الرئاسية في بغداد، وإقامة اعتصامات في كل محافظات الجنوب.
مثل هذه الأحداث لو وقعت فإنها ستضع الحكومة في مأزق كبير، فهي ستكون مجبرة على مواجهة المحتجين، وربما يسقط ضحايا في المواجهات، وحينها ستنشأ أزمة جديدة، وإن فشلت الحكومة في ذلك، فربما تتدخل ميليشيات تعتبر الجنوب ملاذها، ويستحوذ بعضها على مصالح اقتصادية مهمة في المعابر الحدودية والموانئ والحقول النفطية، وسيكون الأمر بمنزلة دفاع عن (مصالحها) بذريعة حفظ الأمن والمؤسسات الحكومية، وهنا بالطبع سيكون الحد الفاصل الذي يمكن أن ينقل الأكمة إلى مستوى الصراع المسلح.
وبشكل ما، نجحت القوى الشيعية المختلفة في تجنب المواجهة العسكرية، وبدا أن هناك حتى اللحظة قدرًا محسوسًا من ضبط النفس بين قوى مسلحة كثيرة في العراق، بعضها صدري والآخر مناوئ له، لكن استمرار الأزمة الحالية والفرص الحقيقية لتصاعدها، قد يكون سببًا في انفلات الوضع، لاسيما بين قوى الشارع المتأزم، ولو بشكل عفوي يتحول إلى صراع شامل.
لكن الأهم من ذلك، أن هذه الأزمة هي نتاج متوقع لفشل العملية السياسية في العراق، والاستمرار بترحيل أساس المشكلة وجوهرها منذ عدة سنوات، وحتى لو تمت معالجة هذه الأزمة بتسوية ما، فإن أزمات أخرى ستظهر لاحقًا وسريعًا.
مركز الجزيرة للدراسات