مع بداية احتجاجات الصدريين، التي بدأت بصلاة الجمعة، قبل تحولها إلى اعتصامات في المنطقة الخضراء، ذكرنا أن الموهومين وحدهم من يرون أن لا إمكانية مطلقا للانزلاق لمواجهة مسلحة بين الطرفين، وأن ثمة خطوطا حمراء مفترضة تمنع ذلك، وهنا تتجسد خطورة المسألة، لأن تاريخ الحروب الأهلية يعلمنا أن الحروب الأهلية التي تبدأ دينية وقومية ومذهبية، تنتهي عادة لتكون حروبا أهلية بين المتماثلين دينيا وقوميا ومذهبيا، وهذه وصفة للكارثة لا بد من تفاديها بأي ثمن، ولكن هل ثمة عقلاء كفاية لوعي ذلك؟
وفي مقالة لاحقة قلنا أيضا إن ترصد الصدريين لكل خطوة يقوم بها الإطار التنسيقي، وإمكانية استخدامهم الشارع لضمان عدم نجاح أي حكومة قادمة، لن يكون سوى مقدمة لمعضلة أكبر، يرى الجميع مؤشراتها عيانا، ولن ينكرها سوى من تأخذه العزة بالإُثم!
هكذا لن تكون المواجهات التي جرت يوم الاثنين الماضي في وسط المنطقة الخضراء من مواجهة مسلحة هي المواجهات الأخيرة وفق هذه المقدمات كلها، ومن بينها التعنت والإصرار على التمسك بالمواقف، والخطاب السياسي الرث الذي يعتمده الجميع!
على أن ثمة متغيرا آخر لا يمكن إغفاله في هذا السياق، إلا وهو الموقف الإيراني. فعلى مدى سنوات ما بعد 2003 عمد الإيرانيون إلى لعب دور الراعي للقوى السياسية الشيعية جميعها، وأعتمد في ذلك استراتيجية مزدوجة؛ تمثلت في دعم القوى الشيعية الرئيسية على التعاون مع الاحتلال الأمريكي لضمان الهيمنة على السلطة (وهذه السياسة بدأت عمليا قبل الاحتلال من خلال اعطاء الضوء الأخضر للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعمل مع الأمريكيين، بل واستلام الأموال منهم، في إطار قانون تحرير العراق الذي اعتمده الكونغرس الأمريكي في العام 1998) وفي الوقت نفسه دعم التيار الصدري في إطار مواجهته المسلحة مع قوات الاحتلال! ولكن هذه الاستراتيجية بدأت بالتصدع بداية من منتصف العام 2012 عندما عمد الصدريون إلى تحدي الراعي الإيراني، من خلال التحالف العابر للهويات الذي تشكل في أربيل في 2012 لسحب الثقة عن المالكي المدعوم إيرانيا. ولكن حرص إيران على بقاء نوع من الوحدة الشيعية، وحرصها على دور الراعي للجميع، جعلها تتجاوز عن هذا التحدي على مضض. ولكن من الواضح أن إيران قد قررت تغيير هذه الاستراتيجية، وبشكل صارخ، ففي يوم الاثنين الماضي صرح الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي لدى استقباله وزير الخارجية العراقي بأن إرساء الأمن والإستقرار في العراق انما يتحقق فقط من خلال الحوار بين جميع التيارات السياسية في هذا البلد على أساس الدستور من اجل خلق توافق حول تشكيل حكومة جديدة. وهو ما مثل انحيازا إيرانيا صريحا إلى جانب الإطار التنسيقي من خلال تبني طروحاته المرفوضة صدريا حول اعتماد السياقات الدستورية لحل الأزمة، ليس احتراما للدستور بالتأكيد، بل لأن هذه السياقات تتيح له الانفراد بالسلطة في العراق!
صحيح أن السيد مقتدى الصدر قد أطفأ شرارة الحرب الاهلية التي كادت تقع، ولكن النار التي تحت الرماد ما زلت على حالها، بل زادتها التصريحات الحادة المتبادلة
وفي اليوم نفسه أصدر المرجع الديني كاظم الحائري، الذي كان، شكليا على الأقل، مرجع التيار الصدري الموصى به من محمد محمد صادق الصدر (والد السيد مقتدى) نفسه. فعلى الرغم من التقاطعات الحادة بين الحائري ومقتدى الصدر، والتي وصلت في أحيان كثيرة إلى الرفض الصريح لفتاوى الأول الذي يفترض أنه مرجع التقليد في المستحدثات لدى التيار الصدري، إلا أن وصية الأب الملزمة، والقاعدة الشيعية التي تلزم بأن يكون ثمة مرجع للتقليد، جعلت السيد مقتدى الصدر، والتيار عموما، يبقي على هذه العلاقة الشكلية. ففي يوم الإثنين نفسه أصدر الحائري بيانا أعلن فيه تخليه عن موقعه كمرجع،، وهي حالة فريدة، وطالب الصدريين بالتحول إلى تقليد السيد الخامنئي، مع الحرص على التعريض بالسيد مقتدى الصدر نفسه، والتأكيد على ضرورة دعم الحشد الشعبي (إقرأ الإطار التنسيقي)!
هذان المتغيران يمكن ترجمتهما على أنهما قرار إيراني بدعم الإطار التنسيقي في إنفاذ خطته باعتماد شماعة «السياقات الدستورية» التي تعني في النهاية احتكاره للقرار الشيعي، واحتكار القرار السياسي ككل مهما كانت التبعات! وهذا وحده ما يفسر طبيعة مواقف قوى الإطار التنسيقي التي تبعت قرار السيد مقتدى الصدر الاستثنائي الذي أوقف المواجهة المسلحة بين الطرفين، بل وأقف اعتصام التيار الصدري في المنطقة الخضراء.
فقد صدر عن زعيم دولة القانون بيانا يوم الثلاثاء 30 آب/ أغسطس أكد فيه على الاحتكام إلى «منطق العقل والمصلحة الوطنية والشرعية، والخضوع لحكم الدستور الذي تترجمه السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية» والاحتكام إلى ما يقرره «صوت الشعب الذي يختزله مجلس النواب الشرعي عبر قراراته وقوانينه ومواقفه». فيما عمد زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق في كلمة متلفزة الى إلقاء اللوم فيما حدث على التيار الصدري، مطالبا بضرورة «عودة انعقاد البرلمان وتشكيل حكومة وفق السياقات الدستورية». وهو ما يمكن عده تصعيدا في الموقف بدلا من السعي إلى التهدئة!
كل هذا استتبع تغييرا واضحا في خطاب التيار الصدري، ففي بيئة كالبيئة العراقية لا يمكن الركون إلى العقلانية لأنها ستفسر، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، على أنها تعبير عن الضعف أكثر منه تعبيرا عن الحكمة! فبعد الإعلان عن اعتزال الصدر العمل السياسي، قبيل اندلاع المواجهة، ثم إعلانه سحب المحتجين بعيد المواجهة، صدر عما يسمى وزير القائد، والناطق باسم الصدر عمليا، تغريدة شديدة اللهجة، تحدثت عن وقاحة تحدي الشعب بالمضي بعقد البرلمان لتشكيل «حكومتهم الوقحة» وأن التيار الصدري سيعدهم «عدوهم الأول» وأن على إيران أن «تكبح جماح بعيرها في العراق» في إشارة إلى المالكي!
صحيح أن السيد مقتدى الصدر قد أطفأ شرارة الحرب الاهلية التي كادت تقع، ولكن النار التي تحت الرماد ما زلت على حالها، بل زادتها التصريحات الحادة المتبادلة خلال الثماني والأربعين ساعة الماضية، وحادثة البصرة (مقتل أعضاء في سرايا السلام على يد عصائب أهل الحق) زادت هذه النار سعيرا. ومن الواضح أن إيران ووكلاءها وحلفاءها في العراق ليسوا بوارد البحث عن تهدئة، خاصة بعد تعثر مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، فحكومة إطارية ستتيح لإيران استخدام ورقة النفط العراقي كورقة ضغط على الأوروبيين لمزيد من التنازلات استغلالا لأزمة الطاقة فيها على أعتاب الشتاء. وهو ما يجعل إمكانية العودة إلى المواجهة في ظل المعطيات الحالية أكثر ترجيحا من الجنوح إلى العقل!
القدس العربي