لم يكن ما أعلنه الرئيس السوفياتي الراحل ميخائيل غورباتشوف من سياسات “إصلاحية”، تحت اسم “البيريسترويكا” و”الغلاسنوست” في أبريل (نيسان) 1985 أي إعادة البناء والعلانية، سوى صيغة أخرى لما عاد الفضاء السوفياتي السابق ليعايشه من “ثورات ملونة” في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما تلاها من سنوات في مطلع القرن الجاري “أتت على الأخضر واليابس”، كما يُقال، مما بقي من تراث الاشتراكية ومكتسباتها في هذه البلدان على مدى ما يزيد على 70 سنة. كما أن ما أعلنه غورباتشوف من على منصة الأمم المتحدة في عام 1988 حول إسقاط “مذهب بريجنيف”، لم يكن ليقتصر على تخلي الاتحاد السوفياتي عن دعمه وحمايته للأنظمة القائمة في بلدان شرق أوروبا و”حلف وارسو” وحسب، بل وتجاوزها إلى تخلي موسكو عن مبادئها ومواقفها و”الصداقة التي لا تنفصم عراها” مع العالم العربي وبلدان العالم الثالث.
تحولات السياسة الخارجية
ولم يكن كل ذلك وما هو أكثر من ذلك، إلا إعلاناً عن تحولات جذرية في السياسة الخارجية السوفياتية صوب الارتماء في أحضان الغرب، والعودة إلى سابق عهدها من دعم وتأييد لإسرائيل التي أكدت موسكو ومعها “تل أبيب”، في أكثر من موقف ووثيقة أنه “لو لم يكن ستالين ودعم الاتحاد السوفياتي، لما قامت إسرائيل”.
ولعل ما شهدناه، من تحولات “جذرية” تجاه القضية الفلسطينية يمكن أن يكون كافياً لإعلان أن ما جرى في موسكو من تغيرات وتحولات تحت اسم “البيريسترويكا” لم يكن ليتم ويتحقق، من دون تدخل مباشر من جانب الأوساط المؤيدة لإسرائيل ضمن فريق غورباتشوف وأعضائه الجدد الذين دفع بهم إلى صدارة الساحة السياسية في موسكو وخارجها، خصماً من مواقع مَن كانوا يسمون بـ”الحرس القديم”، وفي مقدمتهم ألكسندر ياكوفليف، عضو المكتب السياسي الذي عادت أجهزة الأمن الروسية وفي مقدمتها الـ “كي جي بي” لتعلنه عميلاً للاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي)، وهو ما تناولناه في تقارير سابقة لـ “اندبندنت عربية” من موسكو. القصة قديمة متشعبة شديدة التعقيد وذات شجون. والبداية قد نستمد خيوطها من أخطاء سياسات الأنظمة العربية وفي مقدمتها السياسة المصرية بعد عام 1970.
ويذكر المراقبون ما شهدته سبعينيات القرن الماضي من اتصالات سوفياتية – أميركية أسفرت عن التوصل إلى ما كان يسمي بالانفراج أو “الاسترخاء” على حد تعبير الأدبيات العربية في ذلك الحين، على خلفية توقيع معاهدات الحد من التسلح بين الرئيسين السوفياتي ليونيد بريجنيف والأميركي ريتشارد نيكسون في عام 1972 وما أعقبها من اضطرابات وارتباك على صعيد العلاقات السوفياتية – العربية، وما انتهت إليه في شقها المصري من طرد للسفير السوفياتي في القاهرة في عام 1981، والإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع موسكو. وعلى الرغم من سرعة العودة عن هذا القرار، واتفاق القاهرة وموسكو على استئناف العلاقات بين البلدين في خريف عام 1984، فإن ذلك لم يسفر سوى عن تحسن نسبي على صعيد العلاقات المصرية – السوفياتية. وجاء ذلك في توقيت مواكب لتجدد الاتصالات السوفياتية – الإسرائيلية التي بدأت على استحياء بخطوات وجلة على صعيد السماح بهجرة اليهود السوفيات تحت ضغوط أميركية، منها ما تابعه العالم بأسره، في أعقاب اتخاذ الكونغرس الأميركي لقراره المعروف تحت اسم “تعديلات فينيك – جاكسون” في عام 1974، بما تنص عليه من عقوبات على غرار “عدم منح الاتحاد السوفياتي وضعية الدولة الأحق بالرعاية تجارياً”، بسبب ما تفرضه موسكو من قيود على هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل.
تراجع الاهتمام بالقضايا العربية مع صعود غورباتشوف
ولعل التغييرات المتتالية التي فرضها معدل أعمار كبار أعضاء المكتب السياسي، وتوالي حالات الوفاة بين أعضاء النسق الأعلى للسلطة في الكرملين، كان في صدارة الأسباب التي أسهمت بشكل غير مباشر في الصعود المفاجئ لميخائيل غورباتشوف إلى سدة السلطة في الكرملين. فبعد وفاة ليونيد بريجنيف في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982 وما تلا ذلك من وفاة خلَفه، يوري أندروبوف في فبراير (شباط) 1984، وما أعقبها من رحيل قسطنطين تشيرنينكو في مارس (آذار) عام 1985، تاريخ انتخاب غورباتشوف أصغر أعضاء المكتب السياسي سناً، أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي، وما تلا ذلك من أحداث غيّرت وجه العالم وكانت مقدمة للإعلان عن انتهاء “الحرب الباردة” في مالطة في ديسمبر (كانون الأول) 1989، والتحول عملياً إلى ما كان يُسمى حتى الأمس القريب بـ”عالم القطب الواحد”.
ولم تكن العلاقات العربية – السوفياتية، وفي مقدمتها “القضية الفلسطينية”، لتكون بمعزل عما كانت تموج به الساحة السياسية الدولية منها والإقليمية، من تغييرات عاصفة هادرة. فقد تحولت بوصلة الاهتمامات السوفياتية إلى الاتجاه المعاكس، بعدما أعلن غورباتشوف عن توجهاته التي سرعان ما حظيت باهتمام الخارج، وسارعت مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة البريطانية السابقة، لتزف إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان نبأ عثورها على “الرجل الذي يستطيعون الاعتماد عليه”، على حد قولها.
وفي مثل هذه الأجواء لم يكن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ليظل الضيف المُرَحَّب به دائماً في موسكو، بعدما تراجعت رغبات الكرملين عن استقباله مثلما كانت الحال خلال “الأيام الخوالي”. حتى رئيس النظام السوري حافظ الأسد الذي لطالما أمعن الكرملين في الترحيب به “نكاية” في الرئيس المصري أنور السادات الذي لم تكن موسكو لتنسى له قراره “طرد الخبراء السوفيات في عام 1972″، فقد صار لا يحظى بما كان يناله من اهتمام وترحيب، كثيراً ما فاق في الكثير من جوانبه، ما كان يحظى به أقرانه لدى قيادات الكرملين.
كما تراجعت مواقع القيادات من اليمن الجنوبي لدى الكرملين، وهبطت قيمة “أسهم” الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، والزعيم الليبي الأسبق معمر القذافي في بورصة السياسة السوفياتية، فيما انصرف غورباتشوف إلى محاولات التهدئة على صعيد الحرب العراقية – الإيرانية من جانب، والبحث عن أسرع السبل الرامية للخروج من المستنقع الأفغاني من جانب آخر. وهو ما تيسر له إلى حد كبير بعد بذل الكثير من الجهود والتنازلات التي جرى تقديمها، تزامناً مع الخطوات التي قطعها على طريق التوصل إلى معاهدات الحد من التسلح مع الولايات المتحدة.
ويذكر المراقبون أن غورباتشوف اتخذ مواقف مماثلة تجاه الكثيرين من رفاق الأمس من ممثلي الأحزاب الشيوعية والعمالية في الكثير من بلدان العالم، وليس فقط في بلدان شرق أوروبا. وعلى الرغم من محاولاته استقطاب المثقفين والشباب من مواطني هذه البلدان عبر المؤتمرات والمنتديات والمهرجانات التي حرصت روسيا على عقدها وإقامتها في موسكو للترويج لأفكارها الجديدة بعد الإعلان عن سياسات “البيريسترويكا”، فقد كانت “الطلقة” التي انطلقت من مرقدها، صوب الاتجاه المعاكس ولم يعد في الإمكان تعديل مسارها. وتعالت الشكوى وتصاعد التذمر من جانب أصدقاء الأمس ممَن اضطُروا إلى إفساح المجال لغيرهم من خصوم الماضي، ممَن بلغ معهم ترحيب الرئيس غورباتشوف ورفاقه الجدد، الحد الذي أسهم إلى حد كبير في استفزاز رفاق الأمس من رموز المنطقة العربية، ممَن خابت آمالهم في التغيير الذي كانوا يرومونه سبيلاً إلى حل الكثير من قضاياهم.
وها هي إسرائيل تعود لتشخص بكل قامتها معلنةً عن رغبتها في استعادة ما فات، وتعويض ما تكبدته من خسائر على مذبح “الصداقة العربية – السوفياتية”، بدعم وتأييد مباشرين من “ممثليها” بين صفوف القيادة السوفياتية ممَن راحوا يروجون لواقع أن عودة العلاقات الدبلوماسية السوفياتية – الإسرائيلية “تصب عملياً في مصلحة العرب”.
ولا نستطيع في هذا الصدد إغفال ما كان غورباتشوف، ووزير خارجيته ادوارد شيفارنادزه، يردان به دوماً على تساؤلاتنا حول أسباب “التحول المفاجئ” في سياسات موسكو صوب فتح باب هجرة اليهود السوفيات إلى فلسطين، لاستيطان أراضٍ تعترف موسكو والعالم كله تقريباً، بأنها أراض عربية محتلة، فضلاً عما تقوم به من خطوات وسياسات هي الأقرب إلى “الهرولة”، صوب إعادة العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، فكانا يقولان:
إن موسكو تفعل ذلك من أجل توفير القنوات المناسبة، وإيجاد الشخصيات التي يمكن من خلالها اقناع إسرائيل بجدوى الاعتراف بالدولة الفلسطينية الجديدة، وبضرورة الانسحاب مما بقي من أراض عربية محتلة في يونيو 1967.
ومن هنا جاءت قرارات الكرملين حول ضرورة تصفية كل العراقيل التي لطالما تناثرت على طريق العلاقات بين موسكو و”ربيبتها” إسرائيل التي لطالما وقفت وراء قيامها في 1948، بعد سنوات طوال من التأييد والدعم والرعاية على طريق تنفيذ فكرة إقامة وطن قومي لليهود، وبعد خطوات كانت تستهدف إقامة مثل هذا الوطن في شبه جزيرة القرم في عشرينيات القرن الماضي.
غير أن ذلك كله لم يمنع تراجع مواقع “البيريسترويكا”، وما نجم عنها من أخطاء أسهمت إلى حد كبير في تبديد ما غرق فيه غورباتشوف من أضواء الخارج. وتطايرت السهام التي كان منها ما أصاب “الفكرة” في مقتل، وكان لا بد من تسريع التحركات على كل الجبهات.
العودة إلى المنطقة والباب السعودي
عاد غورباتشوف إلى محاولات استمالة أصدقاء الأمس في المنطقة العربية. وبرز خلال تلك المرحلة الإعداد لاتخاذ القرار التاريخي حول إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفياتي والمملكة العربية السعودية. وهو ما تحقق خلال أول زيارة أجراها إلى موسكو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الأسبق، وأعلنت موسكو والرياض خلالها عن القرار التاريخي بإعادة العلاقات بين البلدين في سبتمبر (أيلول) 1990، ليكون إضافةً إلى جهود موسكو الرامية إلى تحقيق التسوية السلمية المنشودة للنزاع العربي – الإسرائيلي، والتي كان غورباتشوف يرى فيها أيضاً خطوة على طريق دعم مواقعه في الداخل واستعادة ما فقده من شعبية على المستويين الإقليمي والعالمي بتفريطه في مكتسبات الاتحاد السوفياتي على مدى عقود طوال.
وتلت هذه الخطوة، خطوات أخرى في الاتجاه نفسه مع بقية بلدان الخليج، سبقت ما أقرته موسكو من إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 1991 استجابةً لما طلبته تل أبيب حول ضرورة حدوث ذلك، كشرط لموافقتها على المشاركة في مؤتمر السلام قبل إعلان مدريد عن استضافتها لهذا المؤتمر في أكتوبر ونوفمبر (تشرين الثاني) 1991.
وفي هذا الصدد بدا حرص الزعيم السوفياتي الراحل واضحاً على الاستفادة من مشاركته في هذا المؤتمر لاستعادة الكثير مما فقده على الساحة العالمية من أضواء. ونذكر مدى الجدل الذي احتدم بين أروقة وزارة الخارجية السوفياتية، وما دار من مداولات مع الكرملين حول مضمون الكلمة التي كان من المفروض أن يلقيها غورباتشوف في “قصر الشرق” في مدريد لدى افتتاح المؤتمر مع نظيره الأميركي جورج بوش الأب.
ومن موقعنا على مقربة من الوفد السوفياتي في مدريد تابعنا ما انفجر من نقاش جرى بعضه متشحاً بالكثير من مشاعر الأسى التي أصابت أعضاء الوفد السوفياتي ومرافقيهم من ممثلي الصحافة والإعلام، وكذلك الوفود العربية بسبب تركيز غورباتشوف على قضايا الداخل وما تكابده “البيريسترويكا” من متاعب وما تصادفه من عثرات، بدل التوقف بالكثير من الاهتمام الواجب عند قضية النزاع العربي – الإسرائيلي، وأهمية التوصل إلى التسوية السلمية المنشودة في الشرق الأوسط. وهو ما أخذه على عاتقه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الذي بدا نجم المؤتمر بلا منازع، حاسماً من رصيد نظيره السوفياتي غورباتشوف. ونضيف أيضاً أن غورباتشوف لم يكتف بذلك، حيث حرص على البقاء في مدريد لاستئناف برنامج زيارته إلى إسبانيا، وما اتصل بها من مباحثات مع رئيس حكومتها آنذاك فيليب غونزاليس، وهي المباحثات التي ألحقها بأخرى في فرنسا مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران لمناقشة، ما يمكن أن يدعم مواقعه على الصعيد الداخلي، وبحثاً عما يشد من أزره في مواجهته مع خصمه التاريخي بوريس يلتسين الذي كان في سبيله مع رفاقه من خصوم غورباتشوف، وفي الصدارة منهم ليونيد كرافتشوك أول رئيس لأوكرانيا، نحو تنفيذ مخطط “تصفية الاتحاد السوفياتي” في ديسمبر (كانون الأول) 1991 مع رئيس بيلاروس السابق فياتشيسلاف شوشكيفيتش.
اندبندت عربي