مفاوضات إحياء الاتفاق النووي التي بدت تقترب من خط النهاية في الأسبوع الماضي، عادت لتبتعد عنه. هذه المرة طفت على السطح بقوة مسألة «الضمانات» التي تطلبها إيران، للتأكد من رفع العقوبات، وأنها ستجني الفوائد الطبيعية لذلك. ونظرا لأن إدارة بايدن لا تستطيع منح ضمانات، خصوصا أن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس على الأبواب، فإن عملية إحياء الاتفاق من المحتمل أن تنتظر حتى تتضح نتائج الانتخابات. ما يعزز هذا الاحتمال هو أن الحكومة الإسرائيلية قررت إنشاء ما يمكن أن نطلق عليه «غرفة عمليات سياسية» في واشنطن، بقيادة رئيس جهاز المخابرات ديفيد بارنيه، تهدف إلى منع توقيع صفقة بين طهران والقوى العالمية الكبرى.
ومن المقرر أن يجري رئيس الموساد في واشنطن لقاءات مع بعض أركان الإدارة الأمريكية ومنهم، وليام بيريز مدير المخابرات المركزية، وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي، ولويد أوستن وزير الدفاع، إضافة إلى قيادات الكونغرس ولجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية «أيباك» الذين يلعبون دورا مهما في انتخابات التجديد النصفي المقبلة. لاحظ هنا أن جدول أعمال رئيس الموساد لا يتضمن لقاءات مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ولا مع روبرت مالي رئيس وفد المفاوضات الأمريكي. وكنا قد أشرنا في مقال سابق إلى وجود ما يشبه القطيعة بين الحكومة الإسرائيلية ووزارة الخارجية الأمريكية.
يريد لبيد أن يخوض الانتخابات العامة المقبلة باعتباره البطل الذي قتل الاتفاق، على عكس نتنياهو الذي فشل في منع توقيع الاتفاق الأصلي عام 2015
كذلك فقد أصبح «إسقاط الاتفاق النووي» قضية انتخابية رئيسية في الانتخابات العامة الإسرائيلية المقبلة، التي ستجري هي الأخرى في نوفمبر/تشرين الثاني أيضا، حيث يطمح بنيامين نتنياهو للعودة إلى رئاسة الحكومة من بوابة اتهام رئيس الوزراء الحالي يائير لبيد بالتخاذل، وإضاعة الوقت، والفشل في التصدي للاتفاق. من ناحيته فإن لبيد يريد أن يثبت للإسرائيليين أنه هو «البطل» الذي سيسقط الاتفاق، وهو الأمر الذي عجز عن تحقيقه نتنياهو، الذي فشل في منع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما من التوقيع عليه عام 2015 وبذلك فإن الأطراف الثلاثة، واشنطن وتل أبيب وطهران، قد تفضل جميعا إبقاء حبل المفاوضات النووية مشدودا، حتى ظهور نتائج انتخابات الخريف، التي إما أن تلقي طوق النجاة للاتفاق، إذا حصل بايدن على مقاعد إضافية تتيح لإدارته أغلبية قوية، أو أن تغرقه إذا خسر أغلبيته الهشة.
طهران تحدد جدول الأعمال
أصبحت طهران بلا منازع، هي الطرف الأقوى، الذي يحدد جدول أعمال مفاوضات فيينا؛ فهي التي تقرر متى تتوقف، ومتى تستأنف، وما هي الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال. وجهة نظر إيران تجاه الموقف الأمريكي عبر عنها مقال منشور على موقع وكالة أنباء «نور» القريبة من علي شمخاني سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي. المقال المنشور بعنوان: ما هو تعريف واشنطن لـ «الردّ البنّاء»؟ يكشف أن نقاط الخلاف الرئيسية بين الطرفين تتعلق بعدم الثقة والشكوك العميقة لدى كل طرف في نوايا الطرف الآخر، وهو ما يتجاوز الخلافات بشأن الضمانات، أو التحقيق الذي تجريه الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقد اتهم مجلس الأمن القومي الإيراني الولايات المتحدة بأنها «لم تدرس الرد جيدا، بل سارعت بمحاولة إلقاء الكرة في الملعب الإيراني»، بوصف الرد الإيراني بأنه «غير بناء». وقد تضمن مقال وكالة «نور» النقاط التالية:
أولا: إن الولايات المتحدة منذ بدأت المفاوضات حتى الآن، لا ترى مقترحات إيجابية، إلا ما يتوافق معها ويرضي مطالبها. أما أي مواقف تتعلق بضمانات لمطالب الطرف الآخر، فتعتبرها غير بناءة. ثانيا: لا يوجد تغيير في موقف إيران الثابت بشأن الاستعداد للانضمام إلى اتفاقية قوية مستقرة يُعتمد عليها، وأنها منذ بدأت «مفاوضات رفع العقوبات» تمسكت بذلك قولا وفعلا؛ بتقديم حلول مبتكرة واحترافية للمشاكل التي تعترض المفاوضات. ثالثا: مع الأخذ في الاعتبار تاريخ عدم الثقة في نوايا الولايات المتحدة، والعجز عن الفعل من جانب الاتحاد الأوروبي، والميول السياسية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن أي اتفاقية تفتقر إلى ضمانات قوية، كافية لحمايتها من النزعات ذات الطابع السياسي، لن تكون اتفاقية مستقرة أو يمكن الاعتماد عليها، ومن ثم فإنه «لا يوجد سبب يبرر انضمام إيران إليها. رابعا: أي اتفاقية غير قوية وبلا ضمانات، لا تلبي مطلب إيران الأساسي بالحصول على المنافع الاقتصادية لرفع العقوبات، ولا تتيح الفرص للشركات الأجنبية للاستثمار في إيران، لا يمكن اعتبارها اتفاقية قوية ومتوازنة. خامسا: على العكس من الولايات المتحدة التي تعتقد أن تمديد المفاوضات هو الطريق للحصول على تنازلات من طهران، فإن إيران ظلت وستظل دائما حريصة على الاستمرار في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتقديم مبادرات للتوصل إلى اتفاقية قوية. ومع ذلك فإن مرور الوقت لن يؤدي إلى تغيير موقف إيران تجاه تحقيق مطالبها والمحافظة على مصالحها القومية، ولن يجعلها تقدم تنازلا واحدا. سادسا: تحاول الدول الغربية منذ بداية المفاوضات تصوير المواقف الإيرانية «المبدئية والمنطقية» على أنها عقبة تحول دون التوصل لاتفاق. وتستخدم وسائل إضافية للضغوط التفاوضية والإعلامية، بما فيها ترويج الاتهام بأن إيران لا تريد الوصول إلى اتفاق.
ووجهت وكالة (نور) اتهاما إلى واشنطن بأنها «ليست مستعدة بعد لتحمل المسؤولية عن الأخطاء التي ارتكبتها»، بعد أشهر من المفاوضات الصعبة والمعقدة. وقالت إنه مع الاعتراف بأن جوهر العملية التفاوضية ينطوي على خطوات للأمام وأخرى للخلف، فإن الموقف الأمريكي الذي يقول بأنها «تدرس الرد الإيراني لكي ترد عليه» لا يستقيم مع الحاجة للمحافظة على قوة الدفع اللازمة لتقدم المفاوضات، وهو ما يتطلب من الولايات المتحدة «اتخاذ قرار سياسي» كخطوة ضرورية للحد من تمديد المفاوضات.
حملة إسرائيلية في واشنطن
يقول يائير لبيد إن حكومته «تقود حملة مكثفة تهدف إلى منع توقيع اتفاق خطير بين إيران والقوى العالمية، من دون تعريض العلاقات مع الولايات المتحدة لأزمة». تصريحات لبيد الأخيرة منذ لقائه مع ديفيد بارنيه في الأسبوع الماضي، تشير إلى تحول كبير ومفاجئ في دبلوماسية تل أبيب تجاه واشنطن، بالانتقال من دبلوماسية الضغط بهدف «تقليل الأضرار المحتملة نتيجة لإحياء الاتفاق النووي»، إلى دبلوماسية الضغط بهدف «منع توقيع الاتفاق». ببساطة يريد لبيد أن يخوض الانتخابات العامة المقبلة باعتباره البطل الذي قتل الاتفاق، على عكس نتنياهو الذي فشل في منع توقيع الاتفاق الأصلي عام 2015. ومع زيادة حدة المنافسة والمزايدات الانتخابية، فإن قياسات الرأي العام حتى الآن لا تظهر أن كتلة سياسية واحدة ستتمكن من الحصول على أغلبية واضحة، كافية لتشكيل حكومة مستقرة. لكن حزب الليكود من المرجح أن يفوز بأكبر عدد من المقاعد في الكنيست المقبلة، وهو ما قد يزيد من احتمالات التطرف السياسي اليميني في تل أبيب، الذي يميل إلى خيار الحرب ضد إيران، وتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد. كذلك يبدو أن التنسيق بين تل أبيب وجماعات الضغط الصهيونية في واشنطن، وأهمها «لجنة العلاقات العامة الأمريكية – الإسرائيلية – أيباك»، قد وصل إلى تفاهم يقضي بالعمل على «إسقاط احتمال إحياء الاتفاق النووي». أيباك كانت قد فشلت من قبل في منع إدارة باراك أوباما من توقيع الإتفاق عام 2015. وهي ترغب هذه المرة في تجنب الفشل. وفي حال سقوط خيار إحياء الاتفاق النووي، فإن أي مغامرة عسكرية إسرائيلية يمكن أن تقلب الوضع العام في الشرق الأوسط رأسا على عقب، وقد تبدو الحرب هي المخرج من الأزمة السياسية الإسرائيلية الحالية، لكن وقوع حرب كبيرة بين إسرائيل وإيران، حتى إن كانت في المنطقة بين البلدين برا أو بحرا أو جوا، قد يجعل شرق البحر المتوسط، والخليج، والبحر الأحمر، مسرحا لحرب شاملة، تجر العالم كله إليها، حتى إن كانت غير مقصودة، فالخطأ في الحسابات، وغلبة عوامل الصدفة، أكثر احتمالا في الشرق الأوسط عنه في أوكرانيا أو تايوان، بسبب كثرة وتنوع اللاعبين، من حكومات، وجماعات مسلحة غير حكومية، وقوى خارجية. بمعايير الزمن والسياسة فإن نوفمبر الفاصل مقبل لا محالة.
القدس العربي