على الرغم مما تملكه إيران من أدوات للتأثير في الساحة العراقية خلال السنوات الماضية، فإن الأمر قد اختلف في تعاملها مع الأزمة السياسية الراهنة التي تفاقمت في العراق منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021، والتي تضع النفود الإيراني في اختبار؛ نظراً لتراجع القوى السياسية التقليدية الحليفة لطهران وصعود قوى أخرى. إذ نشبت مواجهات بين القوى السياسية الشيعية، وتتمثل في التيار الصدري الذي بدأ يرفع شعارات مناهضة لإيران في احتجاجاته ويصف نفسه بأنه ليس تابعاً للخارج، وقوى “الإطار التنسيقي” المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع طهران.
ومن المُرجح أن ينعكس تراجع علاقات طهران مع بعض القوى العراقية، بشكل سلبي على الدور الإيراني في العراق، الذي يمثل “رئة اقتصادية” لطهران في ظل عقوبات غربية مُشددة عليها، ومنفذاً للمرور إلى كل من سوريا ولبنان، وساحة لإدارة الصراع وتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة.
مواقف مُعلنة:
تعددت مواقف الجانب الإيراني، سواء الرسمية أو غير الرسمية، إزاء تطورات الأزمة الراهنة في العراق، وتمثلت في التالي:
1- مواقف رسمية داعية للحوار بين أطراف الأزمة العراقية:
أ- الرئاسة الإيرانية: أوضح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي موقف بلاده الرسمي من تطورات عملية تشكيل الحكومة العراقية خلال لقائه برئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، في طهران في أبريل الماضي، عندما صرّح بأن “إيران تتطلع إلى اكتمال سير تشكيل الحكومة الجديدة في العراق بأسرع وقت ممكن”. وعند تفاقم الأزمة واقتحام محتجي التيار الصدري للمنطقة الخضراء في بغداد وخلال اتصال هاتفي بين رئيسي ورئيس مجلس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في أغسطس الماضي، أكد رئيسي أنه على جميع التيارات السياسية الرئيسة في العراق الاتفاق من خلال الحوار للتوصل إلى مخرج من الأزمة السياسية القائمة، وهو بذلك يعني ضرورة الحوار بين حلفاء طهران من القوى السياسية المُتصارعة؛ التيار الصدري والإطار التنسيقي، باعتبارهما الطرفين الأساسيين في الأزمة.
ب- وزارة الخارجية الإيرانية: عند انطلاق احتجاجات التيار الصدري وتفاقم الأزمة السياسية في العراق، جاء بيان وزارة الخارجية الإيرانية في 1 أغسطس الماضي ليشير إلى أن “التطورات الراهنة في العراق شأن داخلي والأحزاب والتيارات العراقية قادرة على تخطي هذه المرحلة”. وفي منتصف أغسطس الماضي، أوضح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، أن بلاده تتجنب التدخل في شؤون العراق الداخلية، لكنها تحث جميع الأطراف على التحاور من أجل الخروج من الأزمة السياسية الحالية في البلاد وتسعى إلى تقريب وجهات النظر.
وبعد احتدام الصراع بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، ذكرت الخارجية الإيرانية في بيان لها: “نحن نتابع التطورات في العراق عن كثب وقلق، ونحن نحاول التقريب بين وجهات النظر المختلفة للفصائل العراقية”. وخلال أحداث المنطقة الخضراء الدامية في نهاية أغسطس الماضي، أكدت الخارجية الإيرانية أن “الحل الوحيد للخروج من الأزمة الراهنة في العراق هو عبر الحوار واحترام المؤسسات القانونية والسياسية والالتزام بالدستور والآليات السياسية”، ودعت القوى والأحزاب السياسية في العراق إلى الإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة، مثلما أعلنت عن قرار إعادة فتح الحدود مع العراق عقب قرار زعيم التيار الصدري يوم 30 أغسطس الماضي بسحب المحتجين من أمام مجلس النواب العراقي.
2- تحذيرات من التداعيات السلبية للأزمة: تمثلت هذه المواقف في تصريح خطيب جمعة طهران المؤقت، محمد جواد حاج علي أكبري، يوم 2 سبتمبر الجاري، بأن الحكومة الإيرانية تتطلع إلى تشكيل حكومة مُستقرة في العراق، وأن “طهران وكما في السابق لن تتردد عن تقديم أي مساعدة لتوفير الأمن والرفاهية وسعادة الشعب العراقي”، مشيراً إلى أن الأحداث الأخيرة في العراق كادت أن تترك آثارها على مراسم “زيارة الأربعين”.
وثمة تصريحات أخرى كانت مُغايرة للمواقف الرسمية الإيرانية المُعلنة من الأزمة في العراق، فعلى سبيل المثال توقّع سيد جلال ساداتيان، السفير الإيراني السابق في بريطانيا، أن العراق قد يشهد ثلاثة سيناريوهات ساخنة تتمثل في أن يتم اغتيال مقتدى الصدر والتخلص منه، أو انسحاب الحكومة العراقية، أو استمرار المواجهات والتصعيد بين القوى السياسية المتصارعة إلى أن تتحقق هزيمة أحد الأطراف وانتصار الآخر.
3- تفسيرات مختلفة في الإعلام الإيراني: حازت أزمة تشكيل الحكومة في العراق على اهتمام كبير من وسائل الإعلام الإيرانية، خصوصاً مع احتدام الصراع السياسي وأحداث المنطقة الخضراء في أغسطس الماضي. وتوجست وسائل الإعلام الإيرانية من هذه الأحداث خشية انعكاساتها السلبية على طهران، حيث اعتبرت وسائل الإعلام المحافظة أن موقف مقتدى الصدر “انقلاب بالمواقف”، وذهبت صحيفة “كيهان”، المُقربة من المرشد الأعلى، إلى أن الاضطرابات الحالية في العراق قد تمت بالنيابة عن الولايات المتحدة وأن من قام بها ينفذ رغباتها في العراق. كما ادّعت صحيفة “وطن امروز”، المُقربة من الحرس الثوري، أن التيار الصدري ومصطفى الكاظمي يقفان وراء فشل تشكيل الحكومة في العراق، وأن دخول المحتجين التابعين للتيار الصدري إلى “المنطقة الخضراء” قد تم بالتنسيق مع الكاظمي؛ وذلك لمنع الإطار التنسيقي من تشكيل الحكومة الجديدة. وفي المقابل، ذهبت وسائل الإعلام الإصلاحية إلى التحذير من تبعات التدخل الأجنبي في العراق، مؤكدة أن تواجد إيران السياسي في هذا البلد سيؤدي إلى سيل من الأزمات.
تحركات مُتنوعة:
إضافة إلى المواقف السابقة، اتخذ التحرك الإيراني على أرض الواقع إزاء تطورات الأزمة السياسية في العراق عدة أشكال، وأبرزها الآتي:
1- زيارات قائد “فيلق قدس” للعراق: تشير تقارير وتحليلات إلى أن قائد “فيلق قدس” التابع لقوات الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، زار العراق ما يقرب من 10 مرات عقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وبعض هذه الزيارات تم الإعلان عنه وظهر قاآني يزور المراقد الدينية في العراق، وهناك زيارات أخرى لم يُعلن عنها، وكان آخرها زيارتان أو ثلاث في شهر أغسطس الماضي. وكان من مهام قاآني الطلب من الصدر وحلفائه من السُنة والأكراد عدم الإصرار على تحالفهم وتشكيل حكومة تستبعد قوى الإطار التنسيقي. وبعد فشل قاآني في ذلك وتفاقم الأزمة في الشارع العراقي، ورفض زعيم التيار الصدري مقابلته كما أُشيع، أصبحت مهمته هي العمل على توحيد الفصائل المُوالية لإيران، ومحاولة خفض التصعيد بين طرفي الصراع الذي ترى فيه إيران عاملاً مؤثراً في خسارة نفوذها في العراق.
وهناك أخبار متداولة مؤخراً بأن قاآني طلب من قوى الإطار التنسيقي سحب ترشيح محمد شياع السوداني لمنصب رئيس مجلس الوزراء، وترشيح شخصية أخرى تحظى بقبول الصدر. وأشارت بعض المصادر إلى أن قاآني كان له تأثير في وقف الأحداث التي شهدتها المنطقة الخضراء وانسحاب مُحتجي التيار الصدري منها، لكنه في الواقع لم يستطع أن يحقق التصالح بين الأطراف المُتصارعة أو يحسم أزمة تشكيل الحكومة، ما يضع قدرته على التأثير خلفاً لقائد “فيلق قدس” السابق الجنرال قاسم سليماني، محل اختبار.
2- الضغط باستخدام القوة: تعرضت أربيل، معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني وهو الحليف لمقتدى الصدر، لهجمة إيرانية في مارس 2022 بعد وقت قصير من فشل المفاوضات مع الصدر حول تشكيل الحكومة. وعلى الرغم من أن إيران أعلنت تبنيها هذه الهجمات بحجة استهداف مقار أمريكية رداً على مقتل قائدين إيرانيين في سوريا، فإن العديد من التقارير رجحت أن القصف جاء كمحاولة للضغط على حلفاء الصدر، والدخول على خط أزمة تشكيل الحكومة العراقية عبر استخدام القوة.
3- تغيير السفير الإيراني في بغداد: تم الإعلان في أبريل الماضي عن تعيين محمد كاظم آل صادق سفيراً جديداً لإيران في بغداد، وهو من قيادات “فيلق قدس” ومن مواليد مدينة النجف العراقية. وقد تمثل هذه الخطوة استجابة إيرانية لمطالب عدد من القوى العراقية الحليفة والتي أبدت انزعاجها من السفير السابق أيرج مسجدي، الذي اعتبرت إيران أنه لم يحقق النتائج المرجوة في عمله، حيث فشل في مهمة توحيد الكتل السياسية الشيعية، ومن ثم استُبدل بشخصية يمكن أن تساهم في معالجة الأزمة الحالية.
وقام السفير الإيراني الجديد في العراق بعدة تحركات تمثلت في اتجاهين؛ الأول عبر اتصالات مع الساسة والزعماء العراقيين من أجل تقريب وجهات النظر، والثاني من خلال التواصل مع المنظمات والشخصيات الدولية العاملة في العراق. إذ استقبل السفير محمد صادق آل كاظم ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بشؤون العراق، جينين هينيس بلاسخارت، في مقر السفارة الإيرانية ببغداد، في 25 يوليو الماضي؛ بهدف إجراء محادثات بشأن الأزمة السياسية في العراق، والعمل على تسريع وتيرة تشكيل الحكومة وفقاً للآلية السياسية والقواعد الدستورية.
4- سحب الغطاء الديني عن التيار الصدري: في ظل تفاقم الأزمة واحتدام الصراع بين التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي، أعلن المرجع الديني كاظم الحائري، في 29 أغسطس الماضي، اعتزاله، ووجه “مقلديه” لاتباع المرشد الأعلى في إيران وعدّه مرجعاً لهم. والحائري هو المرجع الذي يسير على نهجه أتباع التيار الصدري على إثر وصية للمرجع الديني محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن هذه الخطوة جاءت كتحرك إيراني لقطع الطريق أمام مقتدى الصدر وتوجيه أنصاره لاتباع ولاية الفقيه في إيران وعدم الخروج عن خط القوى السياسية الشيعية الحليفة لطهران.
ختاماً، تُمثل الأزمة السياسية الراهنة في العراق تحدياً لإيران، واختباراً لقدرتها على المحافظة على دورها ونفوذها في الساحة العراقية، فطهران التي اعتادت التأثير المباشر في مجريات العملية السياسية وتشكيل الحكومات السابقة في هذا البلد، وجدت نفسها أمام أزمة بين القوى السياسية التي ترى فيها حلفاءً تقليديين لها. كما لم يتمكن قاآني من الاضطلاع بدور سليماني الذي كان يقوم به في العراق والمنطقة من التأثير وتحقيق الأهداف الإيرانية. ومن جهة أخرى، فإن وضع إيران في مفاوضات فيينا ربما لا يتيح لها حرية الحركة في التدخل بالعراق حتى لا تخسر جهودها في السعي لرفع العقوبات الغربية عنها. وإجمالاً، لا يُعد وقوف إيران مُقيدة أمام تراجع نفوذها في العراق وخسارة حلفائها لمكانتهم السياسية، أمراً هيناً بالنسبة لصُناع القرار والتيار المحافظ في طهران، حيث تتحكم كل هذه التعقيدات في تعاملهم مع الأزمة في العراق وتطوراتها حالياً ومستقبلاً.
المستقبل للدراسات