كيف فهمت الولايات المتحدة 9/11 خطأ؟ (2-2)

كيف فهمت الولايات المتحدة 9/11 خطأ؟ (2-2)

ربما كانت المفارقة النهائية في رد الفعل الأميركي على هجمات 11 أيلول (سبتمبر) هي أن جورج دبليو بوش ومساعديه الصقور -وبشكل أساسي في ذلك الحين، وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، ونائب الرئيس ديك تشيني، كانوا مصممين على إثبات منَعة الولايات المتحدة واستعصائها على القهر بعد 11 أيلول (سبتمبر). لم يتم تقديم أي سبب على الإطلاق لغزو العراق، ولكن كان من الواضح أن القضاء على طالبان في أفغانستان لم يكن كافياً بالنسبة لفريق بوش. ومن خلال العديد من الروايات التي تم نشرها منذ ذلك الحين، أرادت الإدارة أن ترسل إلى العالم رسالة مفادها أن القوة الأميركية تظل مرعبة في حد ذاتها. لم تكن للرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين، أي علاقة بأحداث 11 أيلول (سبتمبر)، لكن الرجل القوي استخُدم كملصق مخيف لشرير من أجل تبرير إستراتيجية جورج دبليو بوش الجديدة: توجيه ضربات “وقائية” ضد الدول التي يُزعم أنها تؤوي إرهابيين.
يقول إيفو دالدر Ivo Daalder، سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي: “لقد زادت السهولة التي تخلصوا بها من طالبان من إحساسهم بأن ميزتنا التكنولوجية كانت كبيرة جدًا بحيث أننا يمكن أن نقضي على الحكومات من دون أن ندمّر الدول”.
منتفخة بالثقة المفرطة– وقد يقول البعض بالغطرسة- لفقت إدارة بوش قضية واهية (وكاذبة في نهاية المطاف) مفادها أن صدام كان على صلة بتنظيم القاعدة ويمتلك أسلحة دمار شامل. وبعد ذلك، خلافًا لنصائح معظم حلفائه وفي تحد للرأي العام العالمي، غزا جورج دبليو بوش العراق. وكان الأثر عكس الذي قصده تماماً.
يقول كيلكولين في مقابلة: “الخطأ الأكثر أهمية كان غزو العراق. يمكنك حقًا أن تؤرخ لتراجع الهيمنة العسكرية الأميركية به. ذلك كان الخطأ الرئيسي الذي تصدر البقية”.
كانت النتيجة أن إدارة بوش تركت أفغانستان مكشوفاً أمام حركة طالبان العائدة إلى الظهور تدريجياً. وبغزوها العراق لتصبح بذلك قوة احتلال في قلب العالم العربي، فتحت الإدارة باباً عصياً على الإغلاق للإرهاب الإسلاموي الجديد الموجه إلى واشنطن. وأدى الاحتلال الأميركي للعراق -والطريقة الوحشية التي نفذه بها الأميركيون؛ بالاعتقالات الجماعية وضرب العراقيين الأبرياء الذين انتهى بهم المطاف في كثير من الأحيان إلى سجن أبو غريب أو معسكر بوكا- إلى ظهور تهديد إسلاموي جديد بقيادة الزرقاوي. وكما قال تقرير لمعهد بروكينغز في العام 2015 عن معسكر بوكا، فإنه “إذا لم يكن المعتقلون جهاديين عندما وصلوا، فقد أصبح العديد منهم كذلك عندما غادروا”. وانتشرت تلك الحركة الإسلاموية لاحقاً إلى اليمن، والصومال، وشمال إفريقيا، وتحولت لاحقًا إلى تنظيم “داعش” بقيادة أبو بكر البغدادي. وقد انتشر “داعش” الذي وُلد في احتلال العراق، مثل الخلايا السرطانية عائداً إلى أفغانستان وسورية وأماكن أخرى، واتخذ أشكالًا جديدة واستخدم تكتيكات جديدة أكثر ذكاءً.
وهكذا، كانت البداية الافتتاحية لغزو العراق -حملة “الصدمة والرعب” سيئة السمعة- في الواقع “ذروة نموذج الضربة الدقيقة الأميركية عالية التقنية، المقودة بالاستخبارات، للهيمنة على ساحة المعركة” كما كتب كيلكولن، الذي أضاف: “هذه الطريقة في الحرب، التي كانت الولايات المتحدة رائدتها في العام 1991 (بداية حقبة “القنبلة الذكية” في حرب الخليج الأولى) والتي أُجبر الجميع، من الحلفاء والأعداء على حد سواء، على أن يحسبوا لها حساباً منذ ذلك الحين، بدأت في التراجع من تلك النقطة فصاعدًا”.
بدلاً من ذلك، سيتم في العقدين التاليين إنزال الأميركيين من علياء “القنبلة الذكية” وإجبارهم على الاشتباك على الأرض مع جميع الأعداء الجهاديين الجدد الذين ولدوا في ظروف الغزو -بتكلفة هائلة في الأرواح والأطراف والأموال، وصبر الولايات المتحدة.
* * *
في الأثناء، تكيف هؤلاء الأعداء. اندمج الجهاديون في الأماكن والمجتمعات التي عملوا فيها بحيث أصبح من الصعب فصلهم عن عامة السكان. وبعد سنوات من خبرة الاقتراب من الموت الذي تجلبه الطائرات من دون طيار والغارات الجوية، “أصبحوا أكثر صلابة، وأكثر ذكاءً، وقدرة على التخفي، وأكثر فتكًا بكثير بمرور الوقت”، كما كتب كيلكولن. حتى أن الجهاديين طوروا تقنيات خاصة بهم، مثل الأسلحة التي يتم تشغيلها عن بعد، وتكتيكات مثل استخدام الخلايا الصغيرة المستقلة التي تقاتل في أسراب قتالية متفرقة، والتي قال كيلكولن أن الغرب نفسه يمكن أن يتعلم منها.
يقول جوزيف ناي Joseph Nye، الدبلوماسي المخضرم والاستراتيجي الشهير في جامعة هارفارد، إنه نتيجة الإفراط في تطبيق النزعة التدخلية الأميركية، فإن “الضرر الذي سببه “القاعدة” يتضاءل مقارنة بالضرر الذي ألحقناه بأنفسنا”. ووفقًا لبعض التقديرات، قُتل ما يقرب من 150.00 من أفراد الجيش الأميركي ومن المتعاقدين العسكريين الأميركيين، وبلغت التكلفة الاقتصادية للحروب التي أعقبت 11 أيلول (سبتمبر) أكثر من 6 تريليونات دولار. أضف إلى ذلك عدد القتلى من المدنيين الأجانب واللاجئين. كانت التكاليف هائلة”.
وحتى بعض الديمقراطيين الذين شككوا في انسحاب بايدن السريع من أفغانستان يوافقون على أن واشنطن بالغت في العمل والتمدد استراتيجياً. يقول النائب الديمقراطي راجا كريشنامورثي Raja Krishnamoorthi، عضو لجنة المخابرات بمجلس النواب: “أعتقد أنها ستكون هناك العديد من المجلدات التي ستُكتب عن أخطائنا- ستكون أفغانستان بمثابة دليل مرجعي تقريبًا حول كيفية عدم القيام بالأشياء في المستقبل. أحد الدروس هو أننا سيئون حقًا في بناء الدولة، وأننا لا يجب أن نهدر المال أو الوقت وأثمن مواردنا، شعبنا، على بناء أو فرض حكومة في أرض أخرى من دون التقاليد أو الثقافة اللازمة لدعمها”.
يصف جيمس دوبينز James Dobbins، أول مبعوث أميركي إلى أفغانستان ما بعد طالبان، ولاحقاً الممثل الأميركي الخاص لأفغانستان وباكستان، فترة العشرين عامًا هذه بأنها “الجيل الضائع في السياسة الخارجية الأميركية”. ويقول إن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كانت “الزناد”. في الفترة من العام 1945 إلى العام 2000، كما يجادل، كانت لكل رئيس أميركي إنجازات مهمة في السياسة الخارجية تُحسب في رصيده، ولكن منذ ذلك الحين، لم يكن لدى أربعة رؤساء أي شيء يمكن أن ينسَب إليهم الفضل فيه تقريبًا. وأشار إلى أن أوباما نجح في تحقيق إنجازين رئيسيين، “الاتفاق النووي الإيراني” و”اتفاقية باريس”، لكن ترامب قوضهما. فلماذا هذا السجل الهزيل في العقدين الماضيين؟ يقول دوبينز إن السبب، في جزء منه، هو أن كل رئيس منذ جورج دبليو بوش كان يحاول تنظيف الفوضى التي صنعها ذلك الرئيس بعد 11 أيلول (سبتمبر).
يقول دوبينز: “ربما كان غزو العراق أسوأ قرار منفرد في السياسة الخارجية الأميركية منذ العام 1776”. لكن الأسباب تكمن أيضًا في انهيار الإجماع الوطني، الذي تفاقم بسبب الأزمات الاقتصادية في الداخل، وخاصة الركود العظيم الذي أعقب العام 2008.
ويضيف دوبينز: “كانت لدينا زيادة كبيرة في جيل من الأشخاص الذين لا يؤمنون بالهدف الأميركي الذي وجه السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الولايات المتحدة الركيزة الأساسية للنظام الدولي. وتعود الإجابة إلى زيادة التفاوت في الدخل. لدينا جيل كامل لم يشهد تدفق فوائد هذا النظام العالمي إليهم، حيث تتدفق 90 في المائة من فوائد النظام الدولي إلى أعلى 10 في المائة”.
والأسوأ من ذلك أنه خلال فترة العشرين عامًا نفسها، لاحظ بقية العالم تعثرات الولايات المتحدة العديدة في الحرب على الإرهاب -وتعلموا أساليب جديدة لمقاومة الولايات المتحدة وإذلالها. وقد استخدمت الصين وروسيا المستنقع المزدوج للولايات المتحدة، في العراق وأفغانستان، لاكتشاف وسائل جديدة لتحدي واشنطن. وأصبح الأوروبيون، الذين يشعرون بالاشمئزاز من انسحاب بايدن الأحادي، يتحدثون مرة أخرى عن السير في طريقهم الخاص استراتيجياً. ويكمن الخطر في أن يعمد الخصوم إلى استغلال نقاط ضعف الولايات المتحدة بكثافة أكبر.
تتمثل إحدى المخاطر في أن بكين، التي تلاحظ إحجام بايدن عن نشر الجيش على نطاق واسع، قد تسعى إلى تهديد تايوان بشكل أكبر –بحيث تجبر الرئيس الأميركي على الإفراط في التعويض في محاولة لإثبات أنه ليس ضعيفًا. يقول كيلكولن: “يمكن أن يشجع ذلك بايدن على أن يكون أكثر دعمًا لتايوان مما يجب”.
من الواضح أن كارثة العراق كانت زلة إستراتيجية هائلة، لكن هناك عوامل أخرى كانت تلعب دورًا في انعكاس مسار الثروة في الولايات المتحدة. في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أدرك الكرملين أن الولايات المتحدة ما تزال تركز على النفوذ العسكري التقليدي وأنها تعثرت في الشرق الأوسط وأفغانستان. ويقول كيلكولن أن بوتين توصل إلى طرق للتعامل مع واشنطن بشكل غير متكافئ من خلال العمل في منطقة رمادية “حدية” تتجنب الاكتشاف وتتيح إمكانية الإنكار.
وعنى ذلك، من الناحية العملية، تعيين “رجال خضر صغار” -عملاء روس لا يمكن تحديدهم بوضوح كجنود روس- للسيطرة على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا. كما عنى أيضًا استخدام الأساليب السرية لتقويض الديمقراطية الأميركية؛ حيث استغل عملاء الكرملين الانقسام السياسي الداخلي للولايات المتحدة من خلال اختراق انتخابات 2016 و2020 وتوجيه دفق هائل من المعلومات الرقمية المضللة إلى الولايات المتحدة، مما زاد من التوترات بين الحمر والزرق. وبسبب إفراط واشنطن في التمدد في الخارج والانقسامات السامة في الداخل، لم يعد الكرملين يرى الولايات المتحدة كقوة عظمى لا منازع لها، وإنما كقوة عملاقة جريحة، مقطّعة ومخترقة في أماكن لا حصر لها، بينما ديمقراطيتها تفشل. ولا شك أن بوتين يخطط للاستمرار في تقطيعها.
يقول كيلكولن إن الصين اتبعت نهجًا مختلفًا، من خلال ملاحظتها عن كثب أنه كما هو ظاهر “في العراق وأفغانستان، فإن الجيوش الغربية ممتازة في القتال الفني المتطور، لكنها سيئة جداً في ترجمة النجاح في ساحة المعركة إلى نتائج ناجحة خارج التعريف التقني الضيق لـ”الحرب” “. وسعت بكين إلى استغلال هذا الضعف من خلال توسيع تعريفها للحرب ليشمل الأسلحة الاقتصادية والسياسية -على سبيل المثال، مبادرة “الحزام والطريق” التي تغطي معظم الكرة الأرضية. وفي كتابه، يقتبس كيلكولن من أحد الاستراتيجيين الصينيين قوله إن الصين يجب أن “تكون مستعدة لشن حرب قد تؤثر على جميع مجالات الحياة في البلدان المعنية، والتي يمكن خوضها في مجال لا تهيمن عليه الأعمال العسكرية”.
وكتب كيلكولن إن الكثير من هذا هو رد فعل على “فشل الولايات المتحدة المتكرر في تحويل النصر في ساحة المعركة إلى نجاح إستراتيجي، أو ترجمة هذا النجاح إلى سلام أفضل”. بدلاً من ذلك، على مدى العقدين الماضيين، سمحت القوة العظمى الوحيدة لنفسها بالتورط في “سلسلة لا نهاية لها على ما يبدو من الحروب المستمرة وغير الحاسمة التي استنزفت طاقتنا بينما ازدهر خصومنا”.

الغد