كلما تسربت أخبار عن تدهور الحالة الصحية للمرشد الإيراني علي خامنئي (مواليد 1938 في مدينة مشهد) تثير مراكز البحوث والدراسات، ومواقع الأخبار والتحليلات السياسية موضوع خلافة المرشد، والآليات التي ستتبع في تولي خلفه المنصب، والأسماء المرشحة لشغل المنصب الأعلى في إيران. اليوم هنالك تسريبات عن تدهور الحالة الصحية للمرشد البالغ من العمر 84 عاما، الذي خضع لجراحة قبل سنوات نتيجة إصابته بسرطان البروستات، لكن بعض التسريبات الصحية الحالية تشير إلى مشكلة جديدة في الأمعاء، ربما كانت نتيجة وجود بعض الأورام.
من المعلوم أن منصب المرشد الأعلى يخرق مبدأ فصل السلطات في الجمهورية الإسلامية في إيران، لأنه يمثل نوعا من الديكتاتورية الأوتوقراطية، أو ديكتاتورية رجل الدين (الفقيه) المتحكم بالسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، مدعوما بالدستور الإيراني الذي حدد صفات الولي الفقيه بالمادة 107 ونصها: «في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر، وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير، وذلك وفقا للفصل الثامن من الدستور».
كما أشار الدستور في المادة 110 إلى صلاحيات الوليّ الفقيه بأنه: هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤول عن إعلان الحرب والسلام، وهو من يعيِّن ويعزل رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، وقائد الحرس الثوري، وقادة الأمن وأصحاب المناصب العليا في المؤسسات الأمنية. كما تمتد صلاحياته لتشمل تعيين وعزل رئيس مجلس صيانة الدستور، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية، ولا يقف الرئيس الإيراني المنتخَب من قِبل الشعب بعيدا عن سلطة المرشد، حيث يصادق المرشد على انتخابه، ويملك صلاحية عزله أو الحد من سلطته كما حصل مع محمود أحمدي نجاد. وقد حدد الدستور آلية اختيار الولي الفقيه، التي أوكلها لمجلس الخبراء المكون من فقهاء، وهو يضم 88 عضوا، جميعهم من رجال الدين، ويتم انتخابهم عن طريق اقتراع شعبي مباشر لدورة واحدة مدتها ثماني سنوات، ويجب أن يحظى المرشحون لهذه الهيئة بموافقة مجلس صيانة الدستور. هؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشرائط المذكورة في الدستور، ليتم اختيار المرشد من بينهم. لكن لا يخفى على أحد مدى سطوة مؤسسة المرشد الأعلى على أعضاء هذا المجلس، وبالتالي على توجيه خياراته، كما حدث عام 1989 في اختيار علي خامنئي خليفة للمرشد الأول روح الله الخميني.
على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على تجربة الحكم القائمة على مبدأ (ولاية الفقيه) في جمهورية إيران الإسلامية، إلا أن عملية اختيار الفقيه الجامع للشرائط لقيادة الأمة الاسلامية، ما زالت متعثرة لأنها لم تتم على أرض الواقع سوى مرة واحدة عند وفاة المرشد الأول. في عام 1983 عندما كان الخميني في الثمانينيات من عمره، اختار مجلس الخبراء الشيخ حسين منتظري، ليكون نائبا للمرشد، وخليفته في حال وفاته، لتتم عملية انتقال ولاية الفقيه بسلاسة، والشيخ منتظري، كان حينذاك بدرجة آية الله، وكان متصديا للاجتهاد منذ زمن طويل، وهو فقيه متميز ذو تاريخ فقهي وسياسي معروف، كما كان أحد أكثر الفقهاء قربا من الخميني منذ الستينيات، وكان من أبرز المدافعين عن نظرية ولاية الفقيه السياسية، لذلك اعتبرت خطوة اختياره خلفا للخميني، انتصارا سياسيا للتيار المحافظ في الوسط الفقهي والسياسي الإيراني، لكن التحولات جاءت متسارعة قبيل وفاة الخميني بأشهر، إذ عارض الشيخ منتظري حملة الإعدامات السياسية التي جرت ضد المعارضين السياسيين في خريف 1988، والتي طالت سجناء الرأي من قوى اليسار ومنظمة مجاهدي خلق المعارضة، كما يذكر منتظري في مذكراته، هذا الاعتراض أغضب الخميني الذي استبعد منتظري من نيابته، ووضعه رهن الإقامة الجبرية في بيته، ولم يجرؤ مجلس الخبراء على الاعتراض، بل لم يتم بعد ذلك اختيار نائب للمرشد حتى اليوم.
عملية اختيار الفقيه الجامع للشرائط لقيادة الأمة الإسلامية، ما زالت متعثرة لأنها لم تتم على أرض الواقع سوى مرة واحدة عند وفاة المرشد الأول
عشية وفاة الخميني في 3 حزيران/يونيو 1989، كان هنالك ثلاثة رجال دين بدرجة حجة الإسلام، أي لم يكونوا مراجع تقليد بدرجة آية الله، هم الأقوى في الساحة السياسية، وهؤلاء الثلاثة هم؛ أحمد الخميني ابن المرشد، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان والسياسي الأبرز في إيران، وعلي خامنئي رئيس الجمهورية لدورتين، وكانوا هم المتحكمين الفعليين بمسار الأحداث، وقد أقنع الخميني الابن ورفسنجاني مجلس الخبراء بالتجاوز على فقرات الدستور، واختيار خامنئي الذي كان في الخمسين من عمره خلفا لمؤسس الجمهورية الإسلامية، على الرغم من إشارة الدستور لوجوب أن يكون المرشد بدرجة آية الله، وتم للثلاثي الأمر، ليتم لاحقا تعديل الدستور ليتلاءم مع وضع المرشد الجديد.
بعد تسنمه مقاليد سلطة الولي الفقيه وفي سعيه لتركيز السلطات بيده، غيّر خامنئي بشكل جذري ميزان القوى في إيران، وعلى الرغم من افتقاره للكاريزما والسلطة الدينية التي تمتع بها سلفه الخميني، إلا أنه واصل تركيز كل السلطات في يديه، وبات من المفارقات، أن زعيما نُظر إليه ذات مرة على أنه خليفة غير مناسب للخميني، ربما يكون قد جمع بيده سلطة أكبر من المرشد الأول، على الأقل في بعض قطاعات السلطة. وتشير الباحثة في الشأن الإيراني فاطمة الصمادي في ورقة بحثية حول خلافة الولي الفقيه إلى عدم «وجود سيناريو محدد ومتفق عليه بشأن الخليفة المحتمل للمرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، وكذلك الحال بالنسبة لطريقة انتقال السلطة إليه، وكيف سيكون عليه موقف القوى السياسية والمؤسسات ذات التأثير على هذا الصعيد، وفي مقدمتها مجلس الخبراء، والمرجعيات الدينية في قم، كما لا يمكن إغفال دور الحرس الثوري الذي بات مسيطرا ومتنفذا في العديد من مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية». وتضيف الصمادي «تتراوح السيناريوهات بين انتقال سلس للسلطة وآخر يضع بقاء موقع المرشد وصلاحياته كما هي عليه الآن موضع شك، بل يرى أن كل مستقبل ولاية الفقيه سيدخل انعطافة جديدة، وثالث يقول بخلافات واسعة لن يتمكن الفرقاء من تجسيرها؛ ما يدفع الجهة الأقوى في إيران اليوم -وهي الحرس الثوري- إلى إحكام السيطرة على الأمور».
اليوم وبعد أن فرغت الساحة الفقهية الإيرانية من آيات الله الكبار من الجيل السابق للثورة الإيرانية، الذين يمكن أن يتنافسوا على منصب المرشد، وبشكل خاص بعد وفاة المرشح الأقوى للمنصب آية الله محمود هاشمي شاهرودي عام 2018، لم يبق سوى الشيخ صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية الأسبق، الذي ينافس رئيس الجمهورية الحالي إبراهيم رئيسي، والذي يعتبره المراقبون المرشح الأقوى لخلافة خامنئي. ويطرح البعض اسم مجتبى خامنئي الابن الثاني للمرشد الحالي كوريث محتمل لأبيه، لكن يبدو أن من يتبنى هذا الرأي لا يملك اطلاعا كافيا على طبيعة مجريات الأمور في الأوساط الحوزوية والسياسية الإيرانية، فعلى الرغم من قوة خامنئي الابن، إلا إنه تمّيز بلعب مختلف الأدوار من خلف الكواليس، فهو يتمتع بعلاقات وثيقة مع فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وقيادة الباسيج وقيادة القوات المسلحة. كما يسيطر مجتبى خامنئي على إمبراطورية تجارية يقدر رأس مالها بمليارات الدولارات، مع مصالح في كل قطاع تقريبا من قطاعات الاقتصاد الإيراني. وقدر تحقيق أجرته وكالة رويترز عام 2013 أصول الشركات التي يتحكم بها خامنئي الابن بـ95 مليار دولار. لذلك يشير بعض الباحثين إلى احتمالية تكرار سيناريو 1989 عبر الثلاثي الأقوى اليوم، وهم أيضا ثلاثة رجال دين بدرجة حجة الإسلام، اثنان منهم سيلعبان دور صناع الملك، بينما يحظى الثالث بوراثة المنصب، وهم؛ مجتبى خامنئي ابن المرشد الحالي، الشيخ صادق لارجاني رئيس السلطة القضائية الأسبق، الذي من المتوقع أن يلعب أدوارا سياسية فاعلة مستقبلا، والمرشح الأوفر حظا بتسنم منصب المرشد القادم، رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي.
القدس العربي