استمعتُ إلى كلمة الشيخ تميم آل ثاني، حاكم دولة قطر، أمام الجمعية العامة للأُمم المتحدة. وفيما عدا الحرب في أوكرانيا؛ فإنه عدَّد ست أو سبع أزمات عربية كلها صدرت فيها قرارات دولية لا تزال تنتظر الإنفاذ أو الإحقاق. وإذا كان الحلُّ في فلسطين معقَّداً أو عليه انقسام دولي؛ فإنّ هناك مشكلات مثل ليبيا واليمن لا يبدو أنّ عليها انقساماً بين الولايات المتحدة وروسيا مثلاً، فلماذا لا تتقدم الحلول فيها؟ إذا دقّقنا النظر نجد أنّ معظم المشكلات العربية تأتي من انقسامات دولية أو مصالح إقليمية، أو من صراعاتٍ لا يمكن رأبها بين الأطراف المحلية المتنازعة من سنواتٍ وسنوات. وهكذا فإنّ دور القوى العظمى لا يسقط، لكنه يصبح متعلقاً بمدى المصلحة لدى تلك القوة للضغط على الأطراف الداخلية أو الأطراف الإقليمية. ولنضرب مثلاً آخر غير ليبيا واليمن، وهو سوريا. فمنذ أشهر تضغط روسيا نصيرة نظام الأسد على إردوغان لكي يعود للاعتراف بالنظام الأسدي والتماس الحلّ معه. والحجة أنه إذا كان التدخل التركي في سوريا علته منع إقامة كيان كردي في سوريا مدعوم من حزب العمال الكردستاني/ التركي، يهدّد أمن تركيا؛ فإنّ النظام السوري عنده نفس المصلحة ويستطيع القيام بهذه المهمة أفضل من تركيا. ثم إنه من جهة أُخرى لا حلَّ في مسألة اللاجئين السوريين بتركيا وهم يعدُّون عدة ملايين إلا بالتفاوض مع النظام. وإلى هذا وذاك لتركيا مصالح استراتيجية متعددة مع روسيا الاتحادية، وليس من المصلحة إغضابها في هذه الظروف الحسّاسة. ويقول الإعلاميون الأتراك الموالون لإردوغان إنّ للروس والإيرانيين والأتراك مصلحة في خروج الأميركيين من سوريا، فهم حُماة الأكراد وكيانهم. أما الأميركيون فيقولون إنهم باقون لمكافحة الإرهاب المتجدد، والقنابل الموقوتة الموجودة في المخيمات الضخمة لأُسَر وعائلات الإرهابيين! وفي المدة الأخيرة صاروا يضيفون أنّ النظام السوري لا بد أن يتغير ليصبح قادراً على الدخول في الحل السياسي حسب القرار الدولي 2254.
وإلى هذا وذاك وذلك لنتأمل الأطراف المحتشدة على الأرض السورية: قوات النظام، والقوات الروسية، والقوات الإيرانية، والقوات التركية – والقوات الحليفة للجيش التركي، والقوات الكردية الضخمة المحمية من ألفي أميركاني، وقوات تحرير الشام بإدلب، وميليشيات «حزب الله» اللبناني… وإلخ إلخ. لو اتفق الروس وقوات النظام والإيرانيون وأخيراً الأتراك: ألا يستطيعون الاقتراب من الحل؟ بالطبع يستطيعون؛ لكنّ كلَّ هذه القوات سوف تبقى مكانها أو ينشب قتالٌ مُريع، ويجد الإقليميون والدوليون أنفسهم منخرطين في الصراع. وقد كثرت في الشهور الأخيرة التحرشات: ميليشيات إيران بالأميركان، وميليشيات الأكراد بالأتراك، وقوات النظام السوري بهيئة تحرير الشام… إلخ، وهكذا لا يبدو الاستقرار مؤمَّناً ولا واعداً كما كان قبل عام. لماذا؟ لأنّ الروس لم تعد هيبتهم قوية، ولأنّ الأتراك ازدادت جرأتهم وعادوا للحديث عن غزوٍ جديد لاستحداث منطقة آمنة يعيدون إليها مليون سوري، ولأنّ الإيرانيين أرادوا التوسع وبناء مصانع للمسيّرات والصواريخ والذخائر؛ بعد أن انصبّ جهدهم من قبل على نقل كل ذلك إلى لبنان!
إنّ كلَّ هذه المتغيرات تعود لتراخي قبضة القوى العظمى، وإحساس القوى الإقليمية بمقدرة أكبر على الحركة وكسْب الأراضي والنفوذ. هناك ثلاث مناطق تقع الآن على قمة اهتمامات العالم الدولي ومصالحه: أوروبا جوهرة التاج، وبحر الصين الجنوبي فالشرق الأوسط – أو العكس أي أنّ منطقة الشرق الأوسط والخليج بسبب الطاقة والممرات البحرية تتقدم ولو مؤقتاً على منطقة بحر الصين. وإذا كان الأمر كذلك فكيف تتراخى القبضة ويُترك الأمر لإيران وتركيا؟! إيران تراهن عليها كلٌّ من روسيا والصين، وتضغط عليها إسرائيل بقوة. ولذلك عندها عدة كوابح إلا إذا ازدادت حريتها بالاتفاق النووي عندما يتجدد، وحتى ذلك الحين ستظل تعاني من الضغوط ومن التضييق، ويزداد الخراب في مناطق نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن! والأمر على غير ذلك مع تركيا المتجولة بين أميركا وروسيا، وهي تعتقد في هذه الفترة بالذات؛ بإمكان الكسب من الطرفين!
فلنعد إلى السؤال: إلى أين يتجه النظام الدولي؟ في مؤتمر سمرقند تحدث الروس والصينيون عن عالم متعدد الأقطاب، أكثر عدالة وتوازناً، ومن خلال ازدياد قوة النظام الدولي والأمم المتحدة وقانونها الدولي! إنما مَنْ الذي يتلو مزاميرك يا داود أو على من تتلو مزاميرك؟ فكيف ستحترم روسيا الاتحادية القانون الدولي وقد تدخلت في سوريا عام 2015، وها هي الآن تتجاوز الشهر السادس في الحرب على الدولة الأوكرانية واقتطاع الأراضي منها. والطريف أنّ الرئيس الروسي يشيد الآن بفاعلية السلاح الروسي في أوكرانيا، وكان قد أخبرنا عام 2018 أنه استخدم مائتي نوع من السلاح بسوريا كلها جديدة وقد أحدثت دماراً لا يتصوره العقل، وهو يدعو دول العالم إلى شراء السلاح الروسي المتفوق هذا! وقد ردَّ عليه الأميركيون مذكّرين بقدرات الأوكرانيين بسبب السلاح الغربي المتطور، وصمود الشعب الأوكراني. وما نسوا تذكيره بالكيماوي السوري، وبالمذابح ضد المدنيين في أوكرانيا التي تُكتشفُ كل يوم!
بيد أنّ السجلَّ الأميركي في مجال حقوق الإنسان وحريات الشعوب، واستخدام العنف الهائل؛ كل ذلك لا يترك أملاً في أن تحافظ القوة الأعظم الأخرى على التوازن وإنفاذ القرارات الدولية للسلم، وسط هذا الصراع الذي يقطع الأنفاس، ويسفك دماء الجيوش والمدنيين على حد سواء!
إن الذي يبدو الآن أنّ الانقسام يزداد؛ لكنّ الطرفين يتمسكان بالأُمم المتحدة وميثاقها. وهذا تسمكٌ لفظي يتحجج به كل واحدٍ على الآخر دونما إرادة حقيقية لحفظ الأمن والتوازن في عالم التنافس الهائل. ومع أنّ الأميركيين أكبر سيطرة بكثير من الروس والصينيين على مؤسسات الأمم المتحدة، فالراجح أنّ يتجمد النظام الدولي وأن يتجاوزه الطرفان. بيد أنّ أحداً لا يجرؤ على الخروج منه؛ كما حصل مع «عصبة الأمم» في ثلاثينات القرن العشرين. ثم إنّه رغم استشراس الصراع على تايوان؛ فإنّ الصين لا تستغني عن الولايات المتحدة مهما كلف الأمر.
ولدى العالم قوى كبرى ووسطى يمكن أن تلعب دور الوسيط. ومن تلك القوى تركيا التي أفادت من وساطتها المستمرة في عدة ملفات؛ إنما لا يبدو أنها ستمضي بعيداً. أما الصين فقد خابت فيها الآمال بعد أن وقفت مع الروس دونما قيد أو شرط. والهند مؤهَّلة لكن رئيس وزرائها في مؤتمر سمرقند لم يفعل شيئاً غير المطالبة الملحة بإحلال السلام!
يتجمد النظام الدولي إذن بما في ذلك مجلس الأمن، وتظل المفوضيات والوكالات شغالة لإغاثة الجائعين والمحتاجين بقدر الإمكان وسط اضطراب العالم. إنما لا عودة مماثلة للحراك الأميركي بعد الحرب الثانية من أجل نهوض عالمي. كما أنه لا الروس ولا الصينيون مستعدون للبذل التنموي، لإخراج العالم من السيطرة الإمبريالية! النظام الدولي إذن لا يمضي إلى أي مكان، والقوى الكبرى متجهة للتغالب العنيف، والعياذ بالله!
الشرق الأوسط