من جديد، يثور جدلٌ صاخب عن محاولات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) المتكرّرة التقارب مع النظام السوري، وإعادة العلاقات المقطوعة معه منذ عام 2012. دخل كثيرون على الخط. علماء مسلمون “نصحوا”، في يوليو/ تموز الماضي، قيادة الحركة بمراجعة قرارها باستعادة العلاقة مع نظام بشار الأسد، لما سيترتب على ذلك من “مفاسد عظيمة”. حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الذي كان صرح في الشهر نفسه بأنه مهتم “شخصياً” بتسوية العلاقة بين “حماس” وسورية. كتّاب وسياسيون، مؤيدون ومعارضون، لمساعي الحركة تطبيع العلاقات مع النظام السوري. فضلاً عن غضب واسع بين صفوف السوريين، وانقسام وتشرذم بين الفلسطينيين، وضمن قواعد “حماس” نفسها، بين رافضين هذه المقاربة الجديدة وآخرين مؤيدين لها، وفريق ثالث لا يعجبه المسار الجديد، ولكنه يعتذر له ويبرّره بالواقع والضرورات.
سبق أن كتبتُ محاولاً تفسير دوافع “حماس” توسّل فتح صفحة جديدة مع نظام الدكتاتور بشار الأسد، بضغط إيراني وتنسيق يقوده حزب الله تحت عنوان “حماس بين المبدئية وإكراهات الواقع”، (العربي الجديد 11/6/2021). ثمّ كان هناك مقال آخر “عن حماس ونظام الأسد وداء العنصرية” (العربي الجديد 1/7/2022)، والذي حاول التنبيه إلى خطورة تحويل الخلاف بشأن مساعي “حماس” الراهنة في السياق السوري إلى شرخ بين الشعبين السوري والفلسطيني على أسس عنصرية وإقليمية بغيضة. ومن ثمَّ، لن يكرّر هذا المقال ما سبق قوله، ولكنه سيحاول تقديم إضافة جديدة.
منذ عام 2017، أي منذ انتخاب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس خلفاً لخالد مشعل، رأى متابعون أن خللا كبيرا أصاب آلية القرار في الحركة، وجادلوا بأن تنظيم حماس في قطاع غزة استأثر بجلِّ القرارات والسلطات، وتم تهميش تنظيم الخارج. ويقول هؤلاء، إنه في الفترة التي كان فيها مشعل قائداً للحركة كان قطاع غزة، وتحديداً منذ حصاره عام 2007 عقب سيطرة “حماس” عليه، في مقدمة أولوياتها، وكانت جلُّ مواردها موجّهة إليه، بما في ذلك إلى الجناح العسكري للحركة، المعروف باسم كتائب عز الدين القسّام. ومع ذلك، حسب المتابعين أنفسهم، لم تعن مركزية القطاع في حسابات “حماس” حينها الاستغراق فيه وحده وإغفال الساحات الأخرى لأماكن الوجود الفلسطيني. ولكن، يضيف هؤلاء، مع الانتقال القيادي في صفوف “حماس”، وترسّخ زعامة قائد الحركة في القطاع، إبراهيم السنوار، بدا واضحاً أن ثمَّة مساعي منهجية لتجيير كل ساحات وجود “حماس” لصالح القطاع المحاصر، وتعزيز قدرات الجناح العسكري.
منطقياً، هذا مفهوم، فقطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من مليوني إنسان محاصر منذ عقد ونصف العقد ويزيد يستحقّ كل الجهود والموارد. كما أنه يضم عصب المقاومة الفلسطينية وقلبها. ولأن إيران وحزب الله هما أكبر داعمين لحماس عسكرياً واقتصادياً، بدأنا نشهد نوعاً من التجنّح في خطاب الحركة نحوهما، وفي أحيان كثيرة بشكل مبالغ فيه، إن لم يكن فجّاً، وهو ما قاد إلى بعض الانقسام حول “حماس” ومواقفها اليوم. المشكلة أن “حماس” تقدّم نفسها حركة قائدة للشعب الفلسطيني وطليعة لمشروعه الوطني، وهي موجودة في ساحات كثيرة، فلسطينياً وعربياً، وما وراء ذلك. كما أنها منذ نشأتها كانت حريصةً على أن تؤكّد على عمقها العربي والإسلامي، منطلقة من مكانة فلسطين الخاصة في ضمير الأمة الجَمَعِيِّ. ومن ثمَّ، كان من الطبيعي أن يقود اختلال خطاب الحركة ومفرداته إلى تحوّل صورتها في وعي عربٍ كثيرين، خصوصاً ممن يعانون من سياسات إيران وعدوانها هي وأذرعها في بعض الساحات، كسورية والعراق واليمن ولبنان، إلى مصدر للخلاف والتوتر.
عمل حزب الله علناً على إفشال زيارة مشعل، في ديسمبر/ كانون الأول 2021، إلى بيروت، رغبة في تهميشه وربما الانتقام منه
ما سبق هو أخطر ما في الأمر، فلطالما كانت فلسطين قضيةً عليها شبه إجماع عربي وإسلامي جماهيري. لكن اختزال التيار المتنفذ حالياً في “حماس” حساباته، إلى حد كبير، في قطاع غزة، يخصم كثيراً من رصيد الحركة، وللأسف من رصيد فلسطين نفسها. إذن، الإشكال في الزاوية والمستويات التي تقارب منها وعليها القيادة الحالية في “حماس” مواقفها وحساباتها، وليس في طبيعة التحالفات وضروراتها. في الماضي، كانت قيادة الحركة السابقة تنظر إلى قطاع غزة في سياق كليٍّ للقضية الفلسطينية، مع إعطائه أولوية، في الوقت الذي تضبط فيه التحالفات، قدر المستطاع، ضمن ذلك. ولكن قيادة اليوم تنظر إلى كلية القضية الفلسطينية من ثقب الباب الموصد على القطاع ظلماً وعدواناً. وهذا قد يفضي إلى فراغ مشروعاتيٍّ فلسطينياً، إذ إن القطب الفلسطيني الآخر، ونعني هنا حركة فتح، تائه في مستنقعات أوهام التسوية في الضفة الغربية وتصفية القضية الفلسطينية، والآن تبدو قيادة “حماس” الراهنة تائهة هي الأخرى عن أفق المشروع الوطني الفلسطيني، الأعم والأوسع، وعمقه العربي، وتغدو أسيرة من حيث لا تتحوّط لمعضلات قطاع غزة الذي يستحق فعلاً كل الاهتمام والدعم، ولكن ليس الاستغراق والفردانية.
قد يجادل بعضهم في دقة هذا التقويم وصوابيته وهذه الفرضية. ولكن ثمَّة من يرى أن “حماس” اليوم مُنْجَرِفَةٌ بسطوة تيار نافذ فيها، مركز ثقله قطاع غزة، ومتحالف مع بعض الجهات في قيادة الحركة في الخارج، من المقرّبين من محور إيران – حزب الله، وهم يجدون كل الدعم والتأييد منهما، في حين يحاولان إضعاف قيادة زعيم “حماس” في الخارج، خالد مشعل. وكلنا يذكر كيف عمل حزب الله علناً على إفشال زيارة مشعل، في ديسمبر/ كانون الأول 2021، إلى بيروت، رغبة في تهميشه وربما الانتقام منه، ذلك أن “حماس” قرّرت الخروج من دمشق، عام 2012، إبّان قيادته لها. وواضح من متابعة النقاشات والمواقف العلنية التي يعبر عنها بعض من قيادات “حماس” وكوادرها أن ثمَّة امتعاضاً، بل ورفضاً واسعاً بين صفوف كثيرين في الحركة، حتى في قطاع غزة نفسه، للسياسات التي يفرضها التيار المتنفذ في القيادة الحالية، وخصوصاً في السياق السوري. بل ثمَّة من يلمح إلى أن تحالف القيادة الحالي يسعى إلى تعزيز سيطرته على مفاصل قرار الحركة إلى سنوات طويلة قادمة عبر توزيع ونشر بعض القواعد المحسوبة عليهم في ساحات كثيرة.
لا مسوّغ لحركة أن تساوم على هويتها وكينونتها ومبادئها، وهي تسعى إلى تحقيق مصالح مشتركة وتبادلية
في مقالي “عن مركزية فلسطين في الوعي العربي”، (العربي الجديد، 3/12/2021)، كتبت إن “المكانة الخاصة بفلسطين في وعي الأمة، وحتى لا تتعرّض لهزّات مرحليةٍ هنا وهناك، فإن هذا يتطلب من أصحاب القضية ألا يجعلوا منها قضية خلافية، وألا يضعوها في حالة تناقضٍ مع جراحات الأمة الأخرى، الغائرة والنازفة. مركزية القضية الفلسطينية لا تعني أحاديتها في فضائنا، ولا تسفيه عدالة تطلعات شعوبٍ عربيةٍ أخرى تسعى إلى الانعتاق من ربقة القمع والظلم والاستعباد”.
لست من الذين يرفضون البرغماتية في سياق تحقيق الصالح العام، أو إنجاز هدف سام، أو خدمة قضية عادلة. لكن المبالغة في البرغماتية ونسف أسسها الأخلاقية بالكلية يؤدّي إلى انقلابها إلى ضدّها ضرراً وخسارة. السياسة مرنة إلى حد كبير بحيث تتيح مساحات واسعة للمناورة. واللغة السياسية غنية ومتنوّعة وحمّالة أوجه. وفي عالم السياسة، البوصلة هي المصالح النفعية المتبادلة. وإيران وحزب الله، وحتى النظام السوري، ليسوا أقلّ استفادة من “حماس” منها هي منهم، ومن ثمَّ لا مسوّغ لهذه الأخيرة أن تساوم على هويتها وكينونتها ومبادئها، وهي تسعى إلى تحقيق مصالح مشتركة وتبادلية.
العربي الجديد