في افتتاحيتها الأسبوع الحالي تناولت صحيفة “الجمهورية الإسلامية” الإيرانية اليومية الصراع بين أرمينيا وأذربيجان محذرة القيادة في باكو مما وصفته بـ”اللعب بالنار”، قالت “إذا عبر المسؤولون الإيرانيون عن موقفهم من بعض التحركات الحدودية بالتحذيرات، فإن هذا لا يعني أنهم لن يستخدموا القوة العسكرية لمواجهة التهديدات المحتملة”، محذرة “الجيران من عدم استغلال صبر طهران واتخاذ أي خطوة ضد الأمن القومي للبلاد”.
جاءت الافتتاحية رداً على اعتداء مسلح شنته أذربيجانعلى مقاطعة سيونيك الأرمينية، الإثنين الـ13 من سبتمبر (أيلول) الحالي، طال مناطق ومنشآت مدنية ما أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين و200 جندي أرميني، و79 عسكرياً أذربيجانياً، وفق التصريحات الرسمية. جاءت هجمات باكو على مقاطعات عدة على طول الحدود الشرقية لأرمينيا الأسبوع الماضي أعقاب “الحرب الكلامية” التي شنها الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ضد يريفان، وأعلن صراحة طموحاته في ضم الأراضي الأرمنية الجنوبية المتاخمة لإيران، وبررت باكو عدوانها على أساس أن أرمينيا لم توقع على معاهدة سلام تعترف بـ”وحدة أراضي أذربيجان” (أي الاعتراف بمنطقة ناغورنو قره باغ ذات الأغلبية الأرمينية كجزء من أذربيجان) أو سمحت بـ”ممر” في الجنوب يربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان الواقع داخل الأراضي الأرمينية، لكنه يتبع أذربيجان منذ الحقبة السوفياتية.
سيونيك، المقاطعة الواقعة جنوب أرمينيا تشكل العائق الوحيد أمام مشروع اقتصادي قومي لربط الشعوب التركية، حيث تقطع الطريق بين أذربيجان وتركيا، كما تفصل مقاطعة ناختشيفان الأذرية ذات الحكم الذاتي الواقعة داخل الأراضي الأرمينية عن أذربيجان، فالمقاطعة التي توصف بأنها العمود الفقري لأرمينيا مع موقعها الجغرافي الاستراتيجي على طول طرق التجارة تتعلق بمبادرة الهند لإنشاء ممر تجاري لتصبح حلقة وصل تربط الهند والخليج بالبحر الأسود عبر جورجيا، في المقابل تهدف باكو وأنقرة للسيطرة عليها كممر يربط آسيا الوسطى وتركيا.
ماذا وراء الانحياز الإيراني لأرمينيا؟
الاعتداءات العسكرية الأخيرة جزء من صراع تاريخي أوسع بين البلدين تنحاز فيه طهران لأرمينيا وهو الموقف الذي يثير الاندهاش أحياناً، بالنظر إلى الأبعاد الدينية، إذ إن أرمينيا دولة مسيحية في حين أن أذربيجان دولة ذات أغلبية من المسلمين الشيعة، لكن تظل المصلحة الاستراتيجية وأبعاد الأمن القومي هي المحرك للعلاقات والمواقف بين الدول.
تستهدف باكو بالاتفاق مع أنقرة إنشاء “مناطق عازلة” داخل الأراضي الأرمينية بهدف تحييد جيش أرمينيا وإنشاء ممر مقترح يعرف بـ”ممر زانجيزور” الذي يمتد على حدود أرمينيا مع إيران، وإضافة إلى الأبعاد القومية، فإن الممر يحظى بأهمية كبيرة على صعيد التجارة بين تركيا التي تكافح اقتصادياً ودول آسيا الوسطى، لكن هذه المحاولات الأذرية التركية لتغيير حدود أرمينيا التي تشكل قضية أمن قومي لإيران، تثير الحذر والترقب في طهران. والثلاثاء الماضي حذر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، من أن أي تغيير في الحدود بين أذربيجان وأرمينيا أمر “لا يمكن القبول به”، حيث أكد مسؤولو إيران مراراً رفضهم لحدوث أي تغيير جيوسياسي في المنطقة
ويقول يغيا تاشغيان، الزميل لدى معهد عصام فارس للسياسة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت، إن طهران لديها مخاوف جيوسياسية وجغرافية اقتصادية من أن فقدان حدودها الجغرافية مع أرمينيا قد لا يحرم إيران من دورها كمعبر يربط تركيا أو ناخيتشيفان بأذربيجان فحسب، بل ربما يمهد الطريق أيضاً لتطلعات عموم تركيا وتوسع “الناتو” في المنطقة.
كما يسكن شمال إيران أكثر من 15 مليون أذربيجاني (نحو ضعف عدد سكان جمهورية أذربيجان)، مما يثير حذر طهران من احتمال وجود حركة انفصالية، فضلاً عن المنافسة بين طهران وباكو على الموارد الهيدروكربونية لبحر قزوين.
يقول هاروت سيمردجيان، الباحث لدى جامعة أوكسفورد، “بسبب الحذر من التهديد الانفصالي فإن طهران ترى أن ضعف أذربيجان يقع في مصلحتها، وأرمينيا تصبح نقطة ضغط مهمة في هذا الصدد، ومن ثم فإننا نلاحظ وضعاً غير عادي في العلاقات الدولية تتطابق فيه مصالح جمهورية إسلامية مع مصالح دولة مسيحية على حساب دولة إسلامية أخرى”.
إيران لن تظل محايدة
لا يمكن لطهران أن تظل محايدة لأنها ترى جارتها الشمالية محاصرة بين تركيا وأذربيجان، بحسب المراقبين، فسيؤدي فقدان أرمينيا كدولة عازلة رادعة ضد مشروع عموم تركيا إلى توترات في المقاطعات الشمالية لإيران. يوضح تاشغيان، في مقال نشر حديثاً “من وجهة نظر إيران ليس من قبيل المصادفة أن التطورات في أرمينيا جاءت بعد الاشتباكات في العراق، واعتبر الإيرانيون الاشتباكات بين الشيعة في بغداد عندما نشبت أعمال عنف بين مؤيدي رجل الدين الشيعي والسياسي مقتدى الصدر والفصائل الموالية لطهران (مؤامرة أميركية) لمحاصرة طهران”.
ووسط الأنباء المتزايدة في شأن تعثر أو فشل المفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي، يضيف تاشغيان أن “هناك نية واضحة لعزل إيران، ومن ثم فإن صمتها في شأن ما يجري جنوب القوقاز سيترجم على أنه علامة ضعف وقد يكون له تأثير الدومينو في الشرق الأوسط”.
مع استمرار التصعيد، نشرت إيران قوات وأسلحة ثقيلة على حدودها مع أذربيجان وأرمينيا، واتصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي برئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان وأكد أن “ارتباط بلاده بأرمينيا لا ينبغي أن يتعرض للخطر، ويجب أن تكون قنوات الاتصال تحت سيادة الدول”. بعد أيام قليلة، حذر رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) وحيد جلال زادة من أن “إيران ستحول حلم تغيير حدود المنطقة إلى كابوس”.
يقول عباس قادري، الباحث لدى المجلس الأطلنطي، “في السنوات الأخيرة نظر السياسيون الإيرانيون إلى أذربيجان المجاورة على أنها وكيل لإسرائيل، وهو ما قد يفسر سبب تسمية إيران لأكبر مناوراتها العسكرية البرية على الحدود الإيرانية الأذرية بـ(غزاة خيبر)، إذ تشير (خيبر) إلى باب قلعة يهودية قديمة في شبه الجزيرة العربية غزاها الإمام علي، لذلك تنظر طهران إلى أذربيجان باعتبارها النسخة الحالية من القلعة نفسها، وبابها هو ممر زانجيزور، الذي اقترحته أذربيجان لربط بقية البلاد بإقليم ناختشيفان عبر احتلال منطقة سيونيك الجنوبية في أرمينيا”.
يضيف قادري، “بالنسبة إلى طهران فإن المعبر يمثل بوابة دخول مباشرة لإسرائيل وحلف شمال الأطلسي إلى القوقاز، بالتالي ينتهك وحدة أراضي أرمينيا ويهدد إيران أيضاً”. وفقاً لمراقبين فإن “فكرة ممر زانجيزور بالأساس أميركية للسيطرة على حدود إيران الشمالية عبر تركيا العضو في الناتو، ومن ثم فإن الفكرة الحالية لا تختلف عن تلك الأصلية لأن قادة الممر سيكونان تركيا وأذربيجان، ومن خلال ذلك الممر ستعزل إيران عن أرمينيا وعن مدخل أوروبا”.
اندبدنت عربي