في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، وقف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن خطيبا من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها السابعة والسبعين. كان جمهور المتفائلين يتوقعون خطاباً من زعيم الدولة الأعظم، يحمل تصورات واضحة للأزمات الدولية المتفجرة في كل مكان وعلى أكثر من صعيد. وكانوا يأملون في أن تضع القوة الأكبر أُطراً جديدة لتنفيس وضع دولي يقترب من حافة الانفجار، حيث الحرب الروسية على أوكرانيا، والأزمة الصحية (كوفيد 19) التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والتغيرات المناخية التي تجلّت بشكل واضح في هذا العام في الكثير من مناطق العالم.
على الجهة الأخرى كان جمهور الواقعيين الذين قرؤوا تاريخ الولايات المتحدة، وعرفوا جيداً السلوك السياسي للطبقة الحاكمة في البيت الأبيض، من جمهوريين وديمقراطيين، كانوا واثقين تماما من أنهم سيستمعون إلى خطاب باهت بلا طعم ولا لون، وعبارات مجّة محشوة بكلمات خالية من معانيها الحقيقية، ومجموعة أمنيات ليست على مقاسات دولة عظمى. كما كانوا على يقين من أن خطاب بايدن سيكون رد فعل ملائكي على الغزو الروسي لأوكرانيا، وتصوير الولايات المتحدة الأمريكية بأنها من يرفع لواء السلام على مرّ التاريخ.
خطاب جو بايدن أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية، خطاب نفاق سياسي بامتياز، وتأكيد على سياسة الأقوال بلا أفعال
وهكذا جاء الخطاب محمّلاً بالأكاذيب والنفاق السياسي.. لا مبادرة طُرحت، ولا جديد سُمع، ولا حلول واقعية لأية أزمة دولية رُسمت، بل كان الخطاب مجرد تكرار لمواقف سابقة ومعروفة، ولأن بايدن جاء أمام المجتمع الدولي مدفوعاً بهدف وحيد، وهو الاستثمار في الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس الروسي بوتين، فقد بدا مثل حكواتي ماهر يحاول أن يبني قصته بهدوء ومنهجية ومهارة، رغم أن القصة خيالية، فذهب مُعدّدا خصال الولايات المتحدة ومواقفها الإنسانية مع كل دول العالم، ومحاولاتها البنّاءة لزرع الديمقراطيات في شتى أصقاع الدنيا، والدفاع عن حقوق الإنسان، بغض النظر عن الشكل واللون والموقع الجغرافي. كان يحاول جاهدا إيقاف عقارب الساعة، ظناً منه أنه يستطيع محو جرائم الولايات المتحدة من ذاكرة من يستمعون إليه في القاعة وفي أنحاء العالم، فعادة عندما لا يريد السياسي تجريم نفسه، فإنه يذهب إلى الكذب والنفاق السياسي والبناء على حقائق ليست موجودة. كان يعتقد أنه ليس عليه أن يقول إن الولايات المتحدة فعلت الجريمة نفسها التي فعلها بوتين عشرات المرات، ظنا منه أنه ببراعة يستطيع إقناع من يستمعون إليه في القاعة بأن ملائكية واشنطن واضحة، والدليل على ذلك أنها تحمل لواء الدفاع عن أوكرانيا اليوم، ودفعت من أجل مساعدتها عشرات المليارات من الدولارات، لكنه نسي أن هنالك هيئات محلفين من الرأي العام، خاصة من الشعوب والدول التي تضررت ودُمرت بسب جرائم واشنطن، تُكذّب كل ما يقوله، وتنزع عنه وعن الولايات المتحدة قناع الإنسانية التي يلبسونها، لذلك كان كل خطابه محشورا في محاولة إنكار التهم والجرائم التي تلاحقه شخصيا، وتلاحق بلاده، وإلقائها على روسيا، ولذا كانت كل كلمات خطابه عبارة عن أسلاك تعثر له ولسياسات بلاده. لقد كان خطاب جو بايدن أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية، خطاب نفاق سياسي بامتياز، وتأكيد على سياسة الأقوال بلا أفعال، فهو يشير إلى ميثاق الأمم المتحدة ويقول، «لقد انتهكت روسيا بلا خجل المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة ـ وليس هناك ما هو أكثر أهمية من الخطر الواضح من استيلاء الدول على أراضي جاراتها بالقوة»، ولو كان هذا الكلام يصدر من رئيس دولة أخرى غير رئيس الولايات المتحدة، لكان من الواجب على السامع أن ينحني تحية لقائله، لكن عندما يصدر عن زعيم البيت الأبيض، فإن السؤال الأبرز الموجه لبايدن سيكون، وماذا عن غزو واحتلال أفغانستان والعراق؟ لماذا قطعت القوات الأمريكية كل هذه المسافات كي تحتل هاتين الدولتين اللتين لا تجاورها؟ وأين كان الخجل السياسي والأخلاقي الذي يتحدث عنه بايدن، حين دمرت حكومات وطنية، وقتلت بدم بارد الأبرياء، وهدمت البنى التحتية، وحولتهما الى دولتين فاشلتين؟ ثم يعزز قوله هذا بنفاق آخر فيقول، «يزعم بوتين أنه اضطر إلى هذا التصرف، لأن روسيا كانت مهددة، لكن أحدا لم يهدد روسيا».. إذن وعلى القياس نفسه يمكن أن يسأله العراقيون بشكل خاص ويقولون له، ومن الذي هددكم في عام 2003، وجعلكم تغزون وتحتلون بلدا، لم تكن لديه أية نوايا عدوانية ضدكم، ولم يكن يشكل أي خطر عليكم؟ فإذا كان بايدن يعتبر أن بوتين قد كذب عندما غزا أوكرانيا، بحجة التهديد الغربي لروسيا، فماذا نسمي تلك الفعالية التي قام بها كولن باول في مجلس الأمن، حين رفع قارورة صغيرة وقال، إن العراق سيدمر البشرية بها خلال دقائق، إن لم تتحرك واشنطن لغزوه واحتلاله؟
ويواصل بايدن خداع نفسه، والضحك على المجتمع الدولي بخطاب متخم بالشعارات الإنسانية الزائفة، فيتباكى على الهجمات الروسية على المراكز الثقافية والتاريخية الأوكرانية، على حد وصفه، ويشير الى الدلائل المرعبة على فظائع روسيا وجرائم حربها، وعزمها على القضاء على حق أوكرانيا في الوجود كدولة وشعب. ومُذكّرا العالم إن «أساس ميثاق الأمم المتحدة لنظام مستقر وعادل قائم على القواعد، يتعرض للهجوم من قبل أولئك الذين يرغبون في هدمه أو تشويهه لمصلحتهم السياسية الخاصة»، ثم يعلن بكل وقاحة «إنني أرفض استخدام العنف والحرب لغزو الدول أو التوسع في الحدود من خلال إراقة الدماء». في حين كان هو من أوئل الداعين الى غزو واحتلال العراق حتى قبل عام 2003. وكان هو من أبرز ساسة الحزب الديمقرا،طي الذين حشدوا كل جهدهم خلف جورج بوش، وارتكبوا الجريمة الكبرى في العراق.
نعم لقد سمع العالم كلمة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن ذاكرة العالم ليست أسفنجية، لقد حاول أن يضفي صورة واعظ يرتدي جلباب الإنسانية والزهد على نفسه، لكن بينما كان يلقي كلماته كانت ذاكرة الرأي العام تستعرض صور جرائم الولايات المتحدة في أبو غريب، وجرائمها في الفلوجة، باستخدام اليورانيوم المنضّب، وتدمير الذاكرة التاريخية للعراق من خلال فتح المتحف العراقي أمام السُرّاق وتجار القطع الأثرية، وصور الجثث الملقاة في المزابل وعلى قارعة الطرقات، واستقدام العملاء وتنصيبهم طبقة سياسية حاكمة، ونزع سيادة البلد على أرضه ومياهه وسمائه، والسماح لإيران بالتوغّل فيه، والتغوّل عليه وتحطيم نسيجه الاجتماعي ونشر ميليشياته فيه، وتهجير شعبه في الداخل والخارج، كل ذلك حصل بسبب كذبة أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وهم أنفسهم أعلنوا عن عدم وجودها بعد دمار البلد، وقد حصل المصير نفسه في أفغانستان وقبلها في فيتنام، وهم من دعموا الصهاينة، كي يقتلوا أهلنا في فلسطين طوال أكثر من سبعة عقود، ووفروا للكيان الغاصب مظلة في الأمم المتحدة تحميهم من الملاحقات السياسية والأخلاقية.
يقينا لو كانت هنالك ذرة عدالة على هذه الأرض لما كان بايدن رئيسا للولايات المتحدة، ولما وقف على منصة دولية يقول ميثاقها إنها تحافظ على الأمن والسلم الدوليين، وتحق الحق وتنزع الباطل، ولكان بايدن اليوم يقبع في سجنه مدى الحياة، جزاء بما اقترفته يداه من جرائم في العراق وأفغانستان مع بقية الساسة الأمريكيين.
القدس العربي