يتفق الباحثون على أن هناك علاقة وثيقة بين النظام الدولي السائد في العالم والنظم الإقليمية المُختلفة؛ بمعنى أن حالة النظام الدولي، من استقرار وتعاون أو صراع وحروب، تُلقي بظلالها على الأقاليم المُختلفة. وترجع هذه العلاقة إلى الصلات التي تربط الدول الكبرى بأطراف النزاعات الإقليمية. ففي أغلب الأحيان، فإن أطراف النزاع الإقليمي يعتمدون في تسليحهم ودعمهم المالي والسياسي على دول إقليمية وقوى دولية. وعندما يشتعل صراع دولي، فإن أطرافه من الدول الكبرى سوف تستخدم حلفاءها الإقليميين لدعم مواقفها وإثارة المشاكل لحلفاء خصومها، وهو ما يُسمى “الحرب بالوكالة”.
لذلك، فإن حالة الصراع التي تغلب على النظام الدولي راهناً، والتي تتمثل في الحرب الروسية – الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير 2022 ومازالت مستمرة، والتأييد الأمريكي – الأطلنطي الشامل لكييف، والأزمات التي ترتبت على هذه الحرب، مثل التضخم وارتفاع أسعار الطاقة وأزمة الغذاء والحبوب والانكماش واحتمالات الركود الاقتصادي في كل دول العالم، ناهيك عن تصاعُد التوتر بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان؛ كل هذه الأزمات الدولية لابد أن تُلقي بظلالها على بؤر النزاع والتوتر في المنطقة العربية.
1- الصراع السوري:
إذا بدأنا بالوضع المتوتر في سوريا لأنها تُمثل ساحة صراع تتداخل فيها القوى الدولية والإقليمية، ولأنها حليف كامل لروسيا، وواحدة من سبع دول في العالم اعترفت باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ولأنه يوجد على أرضها قوات روسية وأمريكية وإيرانية وتركية؛ فقد ظهر تأثير الصراع الدولي على سوريا في أكثر من صورة، لعل أبرزها تفاعل السياسات الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية فيها.
ولا يمكن الفصل بين سلوك أطراف الصراع في سوريا والمُفاوضات التي تجري في فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني، فقد سعت الولايات المتحدة في البداية إلى الإسراع بعملية حسم المفاوضات أملاً في رفع العقوبات على تصدير النفط الإيراني مما يسمح بدخول قرابة 3 ملايين برميل من النفط يومياً إلى السوق العالمية، ومن ثم استقرار سعره والتقليل من حدة أزمة الطاقة في أوروبا. وهو بالمناسبة ما سعت واشنطن إليه أيضاً مع فنزويلا؛ عدوتها التقليدية في أمريكا اللاتينية.
وفي المُقابل، فإن إيران فهمت تداعيات إحياء الاتفاق النووي وآثاره على التخفيف من ضغوط نقص الطاقة على الدول الأوروبية مع اقتراب فصل الشتاء، فأطالت فترة المباحثات أملاً في الحصول على شروط أفضل، وهو ما ظهر بوضوح في الأسبوع الأول من سبتمبر 2022. فبعد أن كانت أغلب التصريحات تشير إلى إمكانية الوصول إلى اتفاق وشيك بشأن المشروع الذي قدمه منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، اختفى هذا التفاؤل، وصرح وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 13 سبتمبر الجاري، بأن توقيع اتفاق مع طهران أصبح أمراً “غير مُرجح”.
ويُمكن تفسير هذا التوجه الأمريكي بالرغبة في الضغط على إيران وسوريا، حليفتي موسكو. ولم تتورع واشنطن عن استخدام القوة المسلحة، حيث شنّت الطائرات الأمريكية، في 23 أغسطس 2022، عدداً من الغارات الجوية ضد منشآت البنية التحتية التي تستخدمها جماعات تابعة للحرس الثوري الإيراني في محافظة دير الزور بسوريا، وذلك حسب تصريح المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سنتكوم). وكان هذا الهجوم هو الأول من نوعه منذ حوالي 14 شهراً.
واتصالاً بذلك، استمرت إسرائيل في عملياتها العسكرية ضد الوجود الإيراني في سوريا والتي شملت، في 15 أغسطس 2022، حملة واسعة على جنوب طرطوس كان هدفها مواقع الصواريخ الإيرانية ومخازنها التابعة لإيران ولحزب الله. وفي 31 أغسطس الماضي، تم إطلاق أربعة صواريخ على مطار حلب الدولي، ما مثّل رسالة تحذير لإيران وحلفائها بأن إسرائيل- حسب تصريحات مسؤوليها – لن تسمح لهم بتطوير قدراتهم العسكرية وتهديد الأمن الإسرائيلي، خاصةً بعد تنفيذ قوات الحرس الثوري الإيراني تدريبات عسكرية بالسلاح الحي شملت صواريخ متوسطة المدى في صحراء دير الزور. كما اعتبر بعض المراقبين التوسع في نشاط الجيش الإسرائيلي بمنزلة رسالة إلى روسيا، خاصةً بعد أن حسمت إسرائيل موقفها بإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
أما بشأن روسيا، فقد واجهت سياستها الخارجية تحدياً صعباً، وهو التوفيق بين مصالحها مع دمشق وطهران وتل أبيب في سوريا. كما سعت موسكو إلى استمرار دعمها العسكري لسوريا، فنظمت تدريبات جوية مشتركة في يونيو 2022 شاركت فيها طائرتان روسيتان وأربع طائرات سورية. بينما أدت الحرب في أوكرانيا والحاجة إلى مزيد من السلاح والجنود، إلى سحب إحدى منظومات صواريخ “إس 300” الروسية من سوريا إلى البحر الأسود، وسحب بعض القوات من سوريا ونقلها إلى ساحة الحرب في أوكرانيا. أضف إلى ذلك أن انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا أدى إلى تنامي قلق النظام السوري من استغلال تركيا لهذا الانشغال في تحقيق أهدافها في الأراضي السورية التي تسيطر عليها.
2- الأزمة اللبنانية:
يأتي المشهد اللبناني ليُبرز ضغوط حلفاء إيران على إسرائيل؛ الحليفة الأولى لواشنطن في المنطقة، وذلك فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والوساطة الأمريكية بينهما للوصول إلى اتفاق. ففي أعقاب إعلان إسرائيل عن هذه الحدود من طرف واحد والتي تضم حقل “كاريش” ومناطق مُتنازع عليها، وأنها تُخطط لاستغلاله واستخراج الغاز منه في شهر سبتمبر الجاري؛ حذر حزب الله تل أبيب من مغبة استخراج الغاز من هذا الحقل قبل الوصول إلى حل بشأن المناطق المُتنازع عليها مع لبنان، وأرفق تهديده بإرسال ثلاث طائرات مُسيرة غير مسلحة اقتربت من هذا الحقل، وكان ذلك رسالة لإسرائيل بأن هذا الحقل في مرمى طائرات حزب الله. وأدت هذه التطورات إلى تغيير موقف إسرائيل والقبول ببعض المطالب اللبنانية وتأجيلها بدء العمل في الحقل إلى نهاية شهر أكتوبر القادم، ونشطت جهود الوساطة الأمريكية بين إسرائيل ولبنان في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر 2022.
وفي هذا الصدد، يُمكن فهم سلوك حزب الله على مستويين؛ الأول لبناني – إسرائيلي وجوهره أنه طالما لا يستطيع لبنان أن يتمتع بحقوقه المشروعة في غاز شرق المتوسط، فإنه لن تتمكن إسرائيل من ذلك. والمستوى الثاني إيراني – إسرائيلي، فحسب تقدير بعض المحللين، فإن سلوك حزب الله بعث أيضاً برسالة تحذير إلى تل أبيب مفادها أنه إذا وسعت إسرائيل ساحات الصراع مع إيران في سوريا وفي العمق الإيراني، فإن القوى المُوالية لطهران تستطيع أن ترد وتُكبد إسرائيل ثمناً غالياً. وتضمنت الرسالة كذلك أن حزب الله يُدرك حاجة الدول الغربية الشديدة لمزيد من الغاز في إطار تداعيات الحرب الأوكرانية، وأن التأخير في ضخ الغاز الإسرائيلي يُمثل ضغطاً على الدول الأوروبية والولايات المتحدة باعتبار أن هذا الغاز سوف يجد طريقه إلى الأسواق الأوروبية.
3- النزاع الليبي:
ظهر الخلاف بين الدول الكبرى في موقفها تجاه إقرار مجلس النواب الليبي لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا. فبينما رحبت روسيا بهذه الحكومة واعترفت بها، فإن الولايات المتحدة وأغلب الدول الغربية تبنت موقفاً حذراً، ودعت الليبيين إلى العودة لمائدة المفاوضات للاتفاق على قواعد العمل في المرحلة الانتقالية القادمة تمهيداً للانتخابات. وفي هذا السياق، استمر وجود قوات “فاجنر” الروسية في ليبيا، وإن كانت موسكو سحبت عدة آلاف من جنودها لاستخدامها في أوكرانيا. كما استمر تعثر مهمة السيدة ستيفاني وليامز كمبعوث أممي في ليبيا؛ نظراً لاعتراضات موسكو المُتكررة عليها والتي وصفتها بأنها “غير مُحايدة”. وتغيرت الظروف في بداية سبتمبر 2022 باختيار عبدالله باتيلي- من السنغال- مبعوثاً أممياً لدى ليبيا، وترحيب كل من باشاغا وعبدالحميد الدبيبة بمهمته.
4- التوترات في العراق:
هناك بؤر أُخرى للنزاعات في المنطقة، ولكن تداعيات الصراع العالمي لا تظهر فيها بالقوة نفسها. ففي العراق مثلاً، بعد الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021، فشلت الكتلة الصدرية، وهي الفائزة بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان، في تشكيل الحكومة بسبب الخلافات مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتكتل “السيادة” السُني، فضلاً عن الموقف المُعادي لمجموعة الأحزاب الشيعية القريبة لإيران والمُسماة بـ “الإطار التنسيقي”. ثم انفجر الصراع داخل البيت الشيعي بين أنصار الصدر وأنصار الإطار التنسيقي. ويُمكن أن نجد في هذا الصراع آثاراً وبصمات لدور إيران وخشيتها من وجود حكومة وطنية عراقية مُستقلة عن طهران، ولكن من التعسف ربط ذلك بالصراع الدولي.
5- الحرب في اليمن:
لم يشهد عام 2022 تأثيراً مُباشراً وكبيراً للأزمات الدولية على الحرب في اليمن، بل نجح المبعوث الأممي هانز جروندبرج في الوصول إلى هدنة بين ميليشيا الحوثيين والحكومة الشرعية اليمنية في أبريل 2022، وتمديدها مرتين حتى 2 أكتوبر المقبل، وهو ما يعني موافقة كل من السعودية وإيران، الحليفتين المُباشرتين لطرفي الصراع، على ذلك. ومع أنه توجد خروقات حوثية للهدنة الأممية الحالية، فإنها لم تصل إلى حد عودة الحرب إلى مستوياتها السابقة. ويعني هذا أن الصراع بين القوى الكبرى لم يكن له تأثير محسوس على الوضع في اليمن، وإنما كانت الأولوية للتوازنات الإقليمية، والتي من أهمها المُباحثات التي تجري في بغداد بين الرياض وطهران ورغبة كل منهما في وجود البيئة المناسبة لاستمرارها.
ختاماً، يتضح مما سبق أن تأثيرات الصراعات والأزمات الدولية على النزاعات الإقليمية تختلف في دورها وحدتها من حالة لأخرى، وتتوقف على مصالح الأطراف الدولية والفائدة المُتحققة في حالة تصعيد النزاع الإقليمي، كما تتوقف على وجود طرف إقليمي مُستعد وقادر على تصعيد النزاع نيابة عن إحدى الدول الكبرى.
المستقبل للدراسات