يقول الباحث الأميركي جون بي. الترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن التاريخ لا يسير بخط مستقيم، وللأسف يتم نسيان ذلك. فمحرك الاحتراق الداخلي الذي كان مصدر الطاقة لسنوات كثيرة في القرن العشرين، سوف يختفي إلى حد كبير في القرن الحادي والعشرين.
على الرغم من أن مصادر إمدادات الكهرباء في المستقبل غير معروفة بعد، سوف تكون طاقة الكهرباء هي السائدة في المستقبل. وقد ابتهج البعض في الولايات المتحدة لأنهم يرون أن تراجع أهمية النفط والغاز سوف يعني في القريب العاجل انتهاء المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة في الحقيقة.
يضيف الترمان في تقرير نشره “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” أن النفط والغاز لن يكونا سلعتين استراتيجيتين في المستقبل البعيد، لكن من المؤكد أنهما سلعتان استراتيجيتان الآن، حيث يربك غزو روسيا لأوكرانيا أسواق الطاقة العالمية ويهدد إمدادات وقود التدفئة في أوروبا في الشتاء. ومع ذلك، فإن هذه ليست أزمة قصيرة الأمد.
ويقول الترمان، وهو أحد كبار نواب رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ورئيس كرسي زبيجنيو بريجينسكي في الأمن العالمي والجيواستراتيجية، إنه من الغريب أن سبب ذلك هو أن الكثيرين تسيطر عليهم فكرة نهاية عصر النفط والغاز. ولم يعد الكثير من المستثمرين على استعداد للاستثمار في مجال التنقيب عن الطاقة وفي البنية الأساسية للطاقة، فيما يرجع من ناحية إلى عدائهم لقطاع النفط والغاز لأسباب بيئية، ومن ناحية أخرى إلى توقع أن دورة حياة أي استثمارات جديدة في هذا المجال ستكون قصيرة للغاية، مما يحول دون استعادة التكاليف.
على الرغم من الحكمة التقليدية القائلة بأن أسعار النفط والغاز سوف تتراجع تدريجيا مع انخفاض الطلب عليها، ليس من المرجح حدوث ذلك. فحقول النفط القديمة تنتج أقل من الجديدة، ومع تضاؤل التنقيب وتراجع الاستثمار في الحقول الموجودة، من المرجح أن تكون النتيجة فترة تنخفض فيها الامدادات أكثر من انخفاض الطلب، مما يزيد الضغط على الأسعار.
ويمكن أن يقول البعض إن أي ارتفاع في الأسعار يعتبر مكسبا على المدى الطويل لأنه سيجعل أنواع الوقود البديلة أكثر تنافسية. ولكن قبل أن يحدث ذلك، سوف يُجبر اهتمام العالم على العودة للاتجاه نحو الشرق الأوسط، حيث بمقدور شركات الانتاج المملوكة للدولة الاستثمار في هذا المجال، وحيث أن لديها اهتماما استراتيجيا بمد أجل عصر النفط وذلك بتخفيض الأسعار بما يكفي لإبطاء اللجوء للبدائل.
وترى هذه الشركات أن هناك منطقا بيئيا لمركزيتها المتجددة، نظرا لأن إنتاجها يتسبب في انتشار أقل نسبة كربون في العالم. وفي حقيقة الأمر، من المحتمل أن يكون هناك عدد من العوامل التي تمنح الشرق الأوسط حصة أكبر في الانتاج العالمي والاحتفاظ بهذه الحصة مع ظهور البدائل.
ومع ذلك، هناك اندفاع في الولايات المتحدة للخروج من الشرق الأوسط مع تزايد الحديث عن تنافس دائم مع الصين. ومع قلق الولايات المتحدة المتزايد بشأن تصرفات الصين في منطقة المحيط الهادئ، يبدو الشرق الأوسط كمعركة الأمس. فقد عادت مرة أخرى معركة “لا حرب بسبب النفط” التي أثيرت قبل 20 عاما، وانضم إليها الآن دعاة الحفاظ على البيئة.
ومع اتجاه الولايات المتحدة نحو آسيا، تقوم الصين رويدا رويدا بالتوغل في الشرق الأوسط. وتعلن الصين نفسها باعتبارها الترياق لمواجهة الهيمنة الأميركية. إنها لا تلقي محاضرات عن الحكم ولا تطلب شيئا أكثر من الشروط التجارية المحضة. ويبدو اهتمام الصين واضحًا للقادة في المنطقة تماما كما هو واضح عدم اهتمام الولايات المتحدة المفترض.
على أي حال، يبقى اهتمام الصين محسوباً. وفي الحقيقة، قد تكون الصين أكثر رغبة من الولايات المتحدة في تحرير نفسها من الاعتماد على الشرق الأوسط. وترى الصين اعتمادها على الشرق الأوسط نقطة ضعف دائمة. إنها لا تفتقر إلى القوة العسكرية لحماية مصالحها هناك فقط، لكنها تخشى أيضا من قيام الولايات المتحدة بسرعة بمنع وصول طاقة الشرق الأوسط إليها في حالة حدوث صراع. وتفتقر الصين إلى وجود احتياطيات عميقة من النفط والغاز مثل الولايات المتحدة، لكن لديها فحم محلي، يلحق ضررا بالهواء في المدن الصينية. وتشعر حكومة الصين بحاجة إلى الخروج من عصر النفط بشدة أكثر من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تتبع الصين موقفا محسوبا وواقعيا تجاه الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنه لدى المسؤولين في الحكومة الصينية اهتمام أكيد على الحد من ارتباط بلدهم بالشرق الأوسط، فإن ذلك مصحوب بادراك أن هناك حاجة لأن تصبح العلاقات أكثر قوة قبل أن تضعف. وتعدّ الصين نفسها جيدا لفترة تركيز عالمي متزايد على الشرق الأوسط.
أما الولايات المتحدة فتتخذ اتجاها معاكسا. ويبدو الأمر وكأن الولايات المتحدة تعرف كيف تنتهي القصة، وهي حريصة على تخطي كل الفصول التي تسبق النهاية. ومع ذلك، فإن الكثير سوف يحدث قبل بلوغ النهاية.
ويوضح الترمان أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تعد نفسها لما سيحدث على المدى المتوسط قبل أن تهيئ نفسها للمدى الطويل. وتتمتع المؤسسة العسكرية الأميركية بالحكمة التي تجعلها لا تتحول بشكل حاد بعيدا عن المنطقة، برغم الضغط عليها للتركيز على منطقة المحيط الهادئ -حيث يعتمد حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير بالفعل على طاقة الشرق الأوسط.
وكانت زيارة بايدن للسعودية في تموز (يوليو) الماضي خطوة بناءة في هذا الاتجاه أيضا؛ إذ أن بناء أنماط متواصلة من التعاون، وتبني مشروعات مشتركة، ومساعدة الشركاء على تنويع اقتصاداتهم ليس أمرا ذكيا فيما يتعلق بالتنافس العالمي مع الصين فحسب، ولكن أيضا فيما يتعلق بتعزيز مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
واختتم الترمان تقريره بالقول إنه لم يعد لدى الكثير من الأميركيين قدر كبير من الصبر بالنسبة للشرق الأوسط، لكن الصبر، في الحقيقة، هو العنصر المطلوب أكثر ما يكون.
الأحوال