لم يكتف النظام الإيراني بتشديد حملة القمع التي يشنها في الداخل، بل زاد من حدة خطابه التهديدي في الخارج أيضاً، ربما بهدف جر الأصول الأمريكية إلى جولة جديدة من التصعيد العسكري تعيد إلى الأذهان ما حدث في صيف عام 2019.
بينما تدخل الاحتجاجات الشعبية في إيران أسبوعها الثالث، لم يتمكن النظام من قمع موجة التمرد بسرعة على الرغم من تسخيره جميع قدرات “قيادة إنفاذ القانون”، وميليشيات “الباسيج” المحلية، ووزارة الاستخبارات. فقد هزّ مستوى التمرد الشعبي الملحوظ الذي أظهره المحتجون، أركان النظام وأغضبهم، تماماً كالدعم الموحد الذي حصلوا عليه من الجالية الإيرانية في الخارج والرأي العام الدولي. وقد استجابتبعض الحكومات الخارجية للاحتجاجات عبر تقديم المزيد من الدعم الملموس – على سبيل المثال، في 23 أيلول/سبتمبر، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية ترخيصاً عاماً جديداً لتسهيل اتصالات الإنترنت للشعب الإيراني من خلال توفير الخدمات والبرامج ذات الصلة. وأفادت بعض التقارير أيضاً أنه يتمّ إعداد عقوبات اقتصادية جديدة على صادرت النفط الإيرانية.
وتتسم الانتفاضة الإيرانية بطبيعة فريدة من حيث عمقها ورقعتها: فللمرة الأولى منذ عام 1979، تتخطى حركة احتجاجية كافة الانقسامات العرقية والاجتماعية والاقتصادية الرئيسية بينما تركز على الإطاحة بالنظام كمطلبها الوحيد. علاوة على ذلك، تلعب النساء دوراً رائداً في هذه الاحتجاجات ويتناولن قضية جوهرية كانت من المحظورات: إلزامية ارتداء الحجاب. ويبدو أن المجال متاح أمام زيادة درجة التصعيد في أوساط شرائح أساسية من الشعب التي لم تنضم بعد إلى الاحتجاجات بشكل جماعي، بدءاً بعناصر “القوات المسلحة الوطنية” (“أرتيش”) والفروع العسكرية الأخرى وصولاً إلى موظفي الدولة والعاملين في القطاع العام (خاصة في صناعات النفط والغاز التي كان لإضراباتها العامة تأثير حاسم على نتيجة ثورة 1979).
وفي البداية، دفع المزيج الفريد من العوامل التي جمعتها هذه الحركة الاحتجاجية إلى قيام النظام بالتصرف بحذر وعدم اللجوء إلى تكتيك “الصدمة والرعب” الذي استخدمه سابقاً والقائم على نشر قواته الأساسية لسحق الاحتجاجات في وقت مبكر – أي القوات النظامية من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني التي ترتدي عناصرها ملابس مدنية وكوادر “الباسيج” المدربين تدريباً خاصاً. وعادةً ما تتلقى الوحدات الأخيرة أوامرها من المقر الرئيسي للقوات الأمنية لـ “ثار الله”، وهو مركز قيادة تابع لـ «الحرس الثوري» مهمته حفظ النظام في العاصمة إذاعجزت الشرطة عن القيام بذلك، وأساساً عن طريق نشر الرعب واستعادة الشوارع [عبر إفراغها] بالقوة الوحشية. وعلى الرغم من أن المقر الرئيسي لقوات “ثار الله” يقع في شمال طهران، إلّا أن هذه القوات قادرة على مراقبة وسط المدينة من شارع “إيران شهر” بما أنها نشرت أكثر من 1500 كاميرا يشغلها “مركز التحكم الذكي في حركة المرور في طهران” لمراقبة كافة التحركات في العاصمة، وهي قدرة تمّ تعزيزها في عام 2018 بعد دمج النظام بـ “مركز قيادة التحكم المروري” الذي تديرهالشرطة الوطنية (“نجا”).
وخلال الانتفاضات السابقة، كان المقر الرئيسي للقوات الأمنية لـ “ثار الله” والعناصر المماثلة لها تبدأ عملها مباشرة بعد خطاب علني للمرشد الأعلى علي خامنئي يدين فيه المحتجين. غير أنه هذه المرة يبدو أن النظام أطلق حملة قمع أكثر عنفاً في طهران ومدن أخرى في 2 تشرين الأول/أكتوبر، أي في الليلة التي سبقت أولى تعليقات خامنئي حول الاضطرابات – رغم أن بعض العوائق لا تزال قائمة أمام بعض العناصر الرئيسية. وتبقى مسألة نجاح أي محاولة لقمع الاحتجاجات وموعدها غير مؤكدة، ويعزى ذلك جزئياً إلى أن الحركة الاحتجاجية تتمتع بتنظيم ذاتي، وهي غير مركزية، وبلا قيادة، وبالتالي فإن استهدافها أكثر صعوبة.
لعبة اللوم الخارجي
إلى جانب حشد القوات لشن حملة القمع داخلياً، لجأ النظام الإيراني إلى تكتيكه القديم المتمثل بإلقاء اللوم على “الأعداء الخارجيين” “لحياكتهم مؤامرة” بغية إثارة الاحتجاجات. وفي 2 تشرين الأول/أكتوبر، اتهم قائد «الحرس الثوري» الإيراني اللواء حسين سلامي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية بلعب دور قيادي في الانتفاضة عبر وسائل الإعلام الفارسية “المدمِرة” (مثل “صوت أمريكا”، و”راديو فاردا”، و “بي بي سي”، و خاصة “إيران إنترناشونال”، وهي وسيلة إعلام تُناقش في القسم القادم). وفي اليوم التالي، وجّه خامنئي اتهامات مماثلة إلى واشنطن والرياض وإسرائيل.
وما يثير القلق بشكل أكبر أن النظام قد ربط أساساً هذا الخطاب مع تحرك عسكري ضد أهداف أجنبية. ففي 24 أيلول/سبتمبر، بدأت “القيادة الشمالية الغربية للقوات البرية لـ «الحرس الثوري»” في قصفمعسكرات تابعة لأحزاب معارضة كردية إيرانية شمال العراق باستخدامها المدفعية والصواريخ والقذائف والطائرات المسيرة. واتهمت طهران هذه الجماعات بالتحريض على أعمال العنف في الجانب الآخر من القرى الحدودية الكردية الإيرانية، وهي تهمة نفتها هذه الجماعات. يذكر أن ضربات «الحرس الثوري» تسببت في سقوط العديد من الضحايا – معظمهم من المقاتلين الأكراد، لكن بعض المدنيين أيضاً، بمن فيهم مواطن أمريكي.
وفي 28 أيلول/سبتمبر، أسقطت مقاتلة أمريكية طائرة مسيرة إيرانية من نوع “مهاجر-6” والتي أفادت بعض التقارير أنها كانت تقترب من أربيل في العراق؛ فوفقاً لـ “القيادة المركزية الأمريكية”، كانت الطائرة المسيرة “تبدو كتهديد لقوات هذه القيادة في المنطقة”. وفي اليوم التالي، حذررئيس “هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة” الإيرانية اللواء محمد باقري، واشنطن من أن إيران سترد على أي أفعال أخرى تستهدف طائراتها المسيرة التي تنفذ أنشطة عسكرية فوق العراق عبر استهداف المنشآت الأمريكية في “القواعد العسكرية في حرير وأربيل ودهوك” في الوقت الذي تراه طهران مناسباً.
هل هناك هجوم قادم على غرار ذلك الذي شُنَّ ضد منشأة لمعالجة النفط في بقيق؟
من غير الواضح ما إذا كانت طهران تعتقد فعلاً أن الحكومات الأجنبية تقف وراء الاحتجاجات أم أنها تستخدم فقط مثل هذا الخطاب لتحويل الأنظار عن الاضطرابات التي تشهدها. وفي الحالتين، قد تتمثل النتيجة بشن هجمات إضافية ضد أهداف خارجية. وقد لا تصب إيران غضبها التضليلي هذا فقط على الجماعات الكردية – فقد تكون السعودية في خطر أيضاً. وفي حين تُلقي طهران اللوم على وسائل الإعلام العالمية الناطقة باللغة الفارسية بسبب دورها في الاحتجاجات، فقد ركزت بشكل خاص على القناة التلفزيونية الفضائية “إيران انترناشونال” ومقرها لندن، متهمة إياها بتلقي تمويل من الرياض وبأنها المحرك الرئيسي للانتفاضة. وفي العراق، واصلت قنوات التواصل الاجتماعي التابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني نشر تهديدات بتنفيذ انتقام مسلح إذ تعتبر أن السعوديين مصممون على الإطاحة بالجمهورية الإسلامية.
وربما ليس من قبيل الصدفة أن يكون شركاء إيران من ميليشيات الحوثي في اليمن قد أعلنوا في 2 تشرين الأول/أكتوبر أنهم لن يجددوا الهدنة مع التحالف بقيادة السعودية. وبعد أن حذروا شركات النفط والشحن الأجنبية لمغادرة المنطقة، هددوا باستئناف الهجمات على المطارات والمرافئ ومنشآت الطاقة. وكما حدث في الماضي، فإن احتمال شن ضربات مماثلة يمنح طهران فرصة كبيرة إما لشن ضربات من داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين أو إنكار تنفيذها بشكل معقول إذاشنتها من داخل إيران أو أي منطقة أخرى.
وفي حالة وقوع مثل هذه الهجمات، لا ينبغي أن يتفاجأ المسؤولون في الخارج إذا كانت مصممة لتكون استعراضية بطبيعتها، بغض النظر عن مصدرها. وتُظهر الانتفاضة مؤشرات محتملة على أنها تشكل تهديداً وجودياً للنظام، وأنه سبق لطهران أن ردت عليها بشنها ضربات في الخارج وتوجيهها تهديدات بتنفيذ المزيد منها في المستقبل. وإذا استمر هذا الوضع، يمكن أن نتوقع أن يشن «الحرس الثوري» – بصفته الحامي للنظام الإسلامي والثورة المُعيّن وفقاً للدستور – المزيد من الضربات. ونظراً إلى الرهانات الكبيرة التي تنطوي عليها الاضطرابات المستمرة، يبقى احتمال أن تشن إيران هجوماً لا تتبنى مسؤوليته ضد خصمها الأكبر في المنطقة، أي السعودية، وارداً.
ومن المفترض أن تكون مثل هذه العملية مماثلة من حيث الغرض والنطاق لهجمات أيلول/سبتمبر 2019 على منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص، والتي تستهدف مجدداً البنية التحتية الحيوية للمملكة ويتمّ إطلاقها من اليمن أو العراق أو إيران نفسها. كما أنها قد تعرّض قوات “القيادة المركزية الأمريكية” المحلية وأصولها للخطر. وعلى الرغم من أن طهران قد تتخذ إجراءات احترازية لتجنب التصعيد عبر استهداف أمريكيين، إلّا أن احتمالات استهدافهم عن طريق الخطأ زادت في السنوات الأخيرة. وعززت واشنطن والرياض دفاعات البنية التحتية الأساسية للمملكة بعد هجمات عام 2019، من خلال تواجد “القيادة المركزية الأمريكية” في المناطق الشرقية التي تضم منشآت نفطية رئيسية، من جملة أمور أخرى. علاوةً على ذلك، يمكن للقوات الإيرانية أن تقرر مهاجمة منصة أمريكية غير مأهولة، كما فعلت حين أسقطت طائرة استطلاعية بدون طيار من طراز “آر كيو – 4 أيه غلوبال هوك” فوق مضيق هرمز في حزيران/يونيو 2019.
ومن المرجح أن تكون الطائرات المسيرة السلاح المفضل إذا قررت طهران ضرب السعودية. وأحد الخيارات المطروحة أمامها هي الطائرات المسيرة الانتحارية من نوع “شاهد-131″ و”شاهد-136” التابعة لـ «الحرس الثوري»، والتي سلّمت إيران عدداً منها إلى روسيا مؤخراً لكي تستخدمها في حربها على أوكرانيا. ويتمثل احتمال آخر في الطائرات الانتحارية الأكبر حجماً بقليل من نوع “آراش-2/كيان-2” التي تستخدمها حالياً “القوات المسلحة الوطنية” (“أرتيش”)، نظراً لأن استخدامها قد يكون مؤشراً على ولاء تلك القوات للنظام.
وبالنظر إلى هذه التهديدات وما يصاحبها من مخاطر (وإن كانت بعيدة) للتصعيد في المنطقة، من الضروري أن تزيد واشنطن من يقظتها على هذا الصعيد، من خلال نشر أصول مناسبة للمراقبة والرصد والاعتراض في المنطقة من بين تدابير أخرى. فبقيامها بذلك، لا تعمل الولايات المتحدة على تحسين قوة ردعها في وجه إيران فحسب، بل توفر المزيد من الطمأنينة لشركائها أيضاً. وفي الوقت نفسه، على المسؤولين الأمريكيين توجيه رسالة قوية لا تقتصر فقط على تقديم الدعم الكامل للشعب الإيراني – يجب عليهم أيضاً التحذير من أن أي ضربة في المنطقة، سواء كانت تُنسب إلى إيران بشكل مباشر أو غير مباشر، قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة ومحددة، ليست مشابهة للطريقة التي ردت فيها واشنطن بعد هجمات 2019.
فرزين نديمي
معهد واشنطن