منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى تاريخ تفككها، أطلق الغرب تسمية «الرجل المريض» على الإمبراطورية العثمانية، بسبب الهزائم التي تعرضت لها، وهي تسمية تعكس تصورا رافق نسبيا وريثتها تركيا لعقود؛ غير أن تركيا الحالية دفنت إلى الأبد هذا التصور، نحو آخر آخذ في التبلور: كلاعب أساسي في الخريطة الجيوسياسية، سواء في البحر المتوسط أو بين الأقطاب الكبرى.
ومن ضمن المعطيات الحالية التي تعكس الأهمية التي تحتلها دولة في الخريطة الدولية، وهو مدى اهتمام مراكز التفكير الاستراتيجي المختلفة بها. بمعنى كيف تخصص لها دراسات وأبحاثا ومتابعة دقيقة مراكز في مختلف الدول، خاصة الكبرى، وليس الاقتصار فقط على مراكز التفكير الاستراتيجي الإقليمية. وينطبق هذا على تركيا، فقد أصبحت مادة أساسية للبحث في مراكز أمريكية وأوروبية وصينية وروسية وهندية وبرازيلية وعربية، ويعود هذا الاهتمام إلى دورها الرئيسي القائم على عاملين رئيسيين وهما:
في المقام الأول، لقد تخلصت تركيا من الصفة التي التصقت بها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، إذ كانت الرجل المريض، ثم الرجل غير المرغوب فيه. فقد تعامل معها الغرب بنوع من التهميش يصل أحيانا إلى الاحتقار بسبب جذورها غير الغربية، ولهذا تم رفض انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، لقد حاولت تركيا الالتحاق بالغرب، وعمل مفكرون أتراك منذ منتصف القرن العشرين إلى نهايته على صياغة طروحات فكرية وسياسية تجتهد في إظهار روابط هذا البلد بالغرب؛ انطلاقا من اعتبار هوميروس أحد رواد الثقافة الغربية، بأنه تركي الأصل وأن الأناضول لا تقل أهمية عن اليونان، إلى كونها دولة رئيسية لتوفير الأمن والحماية للغرب، من خلال عضويتها في منظمة شمال الحلف الأطلسي. لقد وعت تركيا نهاية القرن العشرين، بأن سعيها لتكون دولة قوية لا يمر عبر «التودد للغرب»، بل في التحول إلى قاطرة للشرق الأوسط، ومخاطب للأقطاب الكبرى في المنطقة. وشهد هذا التصور قفزة نوعية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة والبلاد، منذ بداية القرن الجاري، لأنه استغل كل هذه العوامل وأضفى عليها مزيدا من القومية الإسلامية.
في المقام الثاني، رسمت تركيا خريطة عمل جريئة في العلاقات الدولية، تتجلى في استقلالية القرار السياسي – الدبلوماسي عن الغرب أساسا. ووظفت آليات تقوم على نموها الاقتصادي، ثم صناعتها الحربية التي تتطور بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين. وعمليا، النمو الاقتصادي يمنح الدولة فائضا لتوظيفه في الاستثمار والمساعدات لدولة ثالثة لكسب النفوذ، وبدورها تعزز الصناعة الحربية نفوذ أي دولة تبيع السلاح، إذ يعد تأثير الأسلحة مشابها لتأثير الطاقة وأحيانا أكثر.
وظفت تركيا آليات تقوم على نموها الاقتصادي، ثم صناعتها الحربية التي تتطور بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين
وعلاقة بالعامل الثاني، فقد ساهمت تركيا خلال السنوات الأخيرة في رسم الخريطة الجيوسياسية في عدد من المناطق، وأساسا في البحر الأبيض. فقد تدخلت بجرأة في الملف الليبي، وعرقلت السيناريو المصري- الفرنسي- الإماراتي الذي جرى تصميمه لليبيا إلى مستوى أنها جعلت باريس تنسحب بشكل كبير من الملف الليبي، وهي (فرنسا) التي استغلت الربيع العربي في محاولة للانفراد بالنفط الليبي، إلى مستوى التفكير في تقسيم ليبيا. ولو لم يكن التدخل التركي لكان الوضع في ليبيا مختلفا، ومن عناوينه رئاسة خليفة حفتر لهذا البلد المغاربي. ويمتد نفوذ تركيا إلى باقي دول المغرب العربي، بفضل استثماراتها وأساسا صفقات الأسلحة. وتعزز تركيا نفوذها بشكل قوي في البحر الأبيض المتوسط، وفي مناطق افريقية. وتعد حتى الآن الدولة الثالثة التي تحد من نفوذ فرنسا، خلال الثلاثة عقود الأخيرة، في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وإن كانت المواجهة بين باريس وأنقرة علنية، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد صرح خلال زيارته إلى دول افريقية خلال أغسطس/آب الماضي، بأنه يهدف إلى تعزيز حضور فرنسا في مواجهة روسيا وتركيا. وأصبحت تركيا لاعبا أساسيا في منطقة القوقاز، وأوصدت الباب في وجه إسرائيل في المنطقة، وإضافة إلى الاقتصاد، تلعب الصناعة الحربية التركية إحدى الركائز الأساسية للنفوذ التركي في العالم، بعد الإقبال الشديد على طائراتها المسيرة «درون بيرقدار تي بي 2» ثم الطائرات المروحية ومؤخرا السفن العسكرية، من طرف دول مثل أوكرانيا وبولندا والمغرب والعربية السعودية، بل تفكر دول مثل ألمانيا في اقتناء طائرات درون تركية، ولكن كبرياءها تمنعها من ذلك. في الوقت ذاته، كسرت تركيا أكبر تابو في الحلف الأطلسي وهو الاستقلالية النسبية في رسم دفاعها، وذلك من خلال الانفتاح على السلاح الصيني وكذلك الروسي. في هذا الصدد، اشترت المنظومة الدفاعية الجوية إس 400 الروسية، وتسبب لها هذا في أزمة عسكرية مع الولايات المتحدة، وتهدد الآن بتوقيع صفقات أسلحة مع روسيا كذلك، لاقتناء طائرات سوخوي 35 بعدما عارض الكونغرس تحديث وبيعها طائرات إف 16، بل ومنعها من مشروع المقاتلة إف 15.
لعل المنعطف في التموقع الجيوسياسي التركي في العالم حاليا هو، دورها الرئيسي في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بعد اندلاع الحرب، فهي التي سهلت اتفاق تصدير الحبوب، وهي التي تمهد علنا وسرا لمفاوضات السلام بتفويض من الأقطاب الكبرى الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويسود الاعتقاد أنه لا يمكن تصور اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا دون دور فعال ورئيسي لتركيا. لم تعد تركيا ذلك الرجل المريض، ولم تعد الرجل غير المرغوب فيه من طرف الغرب، وأصبحت خلال العقدين الأخيرين «الرجل المستقل»، وكل ما ينقصها هو إقامة ديمقراطية حقيقية بعيدا عن سياسة الاعتقالات لتشكل نموذجا لدول المنطقة.
القدس العربي