دستور النظام الديني الحاكم في إيران قائم على التمييز وهذا بدوره وخلال أكثر من أربعة عقود أدى إلى فجوات عميقة بين الأجيال، بين الشباب الذين يشكلون غالبية الشعب الإيراني وبين الكبار وبين المرأة والرجل وبين الطبقات الوسطى والأخرى المسحوقة وبين السلطة الدينية الريعية أو بالأحرى فإن النظام الإيراني يعيش على صفيح لثلاثة فوالق زلزالية ناجمة عن الفصل الجنسي والاضطهاد القومي والاضطهاد الطبقي.
تحرك الفالق الأول في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي في منطقة معروفة بزلازلها القومية وأعني إقليم كردستان إيران، إذ كتبوا على شاهد قبر المقتولة التي فجرت الانتفاضة الأخيرة في إيران في مقبرة بمدينة سقز الكردية وباللغة الكردية “جينا أميني، لم تموتي بل أصبحت رمزاً”.
وهنا نشاهد الازدواجية في التسمية وهي سمة من سمات الاضطهاد القومي في إيران، إذ إنها تحمل اسمين اسم يسمح به النظام الإيراني بتسميتها بالفارسية فقط وهو “مهسا” واسم ممنوع رسمياً يعبر عن هويتها الكردية وهو جينا أميني الذي لم نسمع عنه إلا على قبرها وبعد دفنها تحت التراب، وهذا المنع يستخدمه النظام ضد كل القوميات غير الفارسية، فكان تكهن الذين سجلوا تلك العبارة على شاهد قبر جينا أميني في محله، حيث إن المشيعين أخذوا يرددون هتافات منها قديمة كـ”الموت للديكتاتور” و”الموت لخامنئي” ومنها جديدة على الإيرانيين كـ”المرأة، الحياة والحرية” وهو شعار سبق أن ردده الأكراد في تركيا وسوريا وهو مستلهم من أفكار عبدالله أوجلان حول المرأة وأصبح الشعار الرئيس في احتجاجات الإيرانيين الأخيرة.
تزاوج قضيتين
من ميزات هذه الانتفاضة التي تقودها النساء في بعض الأقاليم أنها أربكت النظام أكثر من سابقاتها وأخذ يتخبط ولم يعرف طريقة للخروج من أزمته إلا بقتل النساء والرجال والشباب المحتج في الشوارع والأحياء، وأقول بعض الأقاليم لأن في بعضها الآخر كـبلوشستان ما حرك الجماهير للاحتجاج هو الاضطهاد القومي والمذهبي باعتبار أن الشعب البلوشي من إثنية تتميز عن الإثنية الفارسية وأنه، بأكثريته، يعتنق المذهب السني وانطلقت احتجاجاته على خلفية اغتصاب ضابط شرطة لفتاة بلوشية في مدينة تشابهار، ونشر الناشطون الحقوقيون البلوش إحصاءات عن قتلى مذبحة، الجمعة 30 سبتمبر، في زاهدان عاصمة إقليم بلوشستان تتراوح بين 68 إلى 88 قتيلاً بينهم نساء ورجال كانوا يصلون في مسجد قريب من مخفر الشرطة وأزاحت انتفاضة سبتمبر – أكتوبر (أيلول – تشرين الأول) 2022 الستار عن الفجوة الاجتماعية بين الأقاليم والشعوب في إيران.
تحرك إقليم أذربيجان ذات الغالبية التركية بشعارات عامة ضد اضطهاد المرأة والموت للديكتاتور وكذلك بشعارات خاصة به تطالب بحقوق الشعب التركي القومية منها “الحرية، العدالة والسلطة الوطنية لأذربيجان”.
أما في إقليم الأهواز، فلم يشارك الشعب العربي إلا بشكل محدود وطرحت أسباب عدة لهذا الأمر منها تأصل موضوع الحجاب لدى المرأة الأهوازية ورفض الناس لنزعه وأن الشعب محافظ تقليدياً وأن الألوف من النشطاء الأهوازيين إما يرزحون في السجون وإما خارجون منها بكفالات باهظة إثر مشاركتهم في تظاهرات أهوازية وأخرى عامة إيرانية سابقة وآخرها انتفاضة العطش في يوليو (تموز) 2021، لكن بحكم معرفتي بالمجتمع الأهوازي، فإن الإحجام عن المشاركة في الانتفاضة وعلى رغم جميع النداءات التي أطلقتها معظم الشخصيات والمجموعات السياسية الأهوازية يعود إلى خشية الناس وعلى رأسهم النخب السياسية الناشطة من قيام الحكومة الإيرانية بمذبحة ضدهم من دون أن تتجاوب معهم الأحزاب الإيرانية أو تصادرها لمصلحتها.
ويعزو الأهوازيون ذلك إلى العنصرية المتأصلة بين فئات واسعة من الفرس، فهناك نماذج يستندون إليها أقربها انتفاضة نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 ويوليو 2021، إذ قدم العرب في الأولى نحو 20 في المئة من كل ضحايا إيران وواجهتهم القوات العسكرية بالمدرعات والرشاشات الثقيلة من دون انعكاس كاف وواف بين الأحزاب الإيرانية وفي الإعلام الفارسي المعارض.
وحدث الأمر ذاته تقريباً بعد مذبحة زاهدان الأخيرة ليقنع الأهوازيين أن النظرة المركزية المتوهمة بمؤامرة “تجزئة” إيران وبعد سقوط عشرات القتلى البلوش تتهمهم ومعهم الأكراد الذين قدموا بدورهم عدداً من الضحايا والسجناء وتم قصف ملاجئ أبنائهم في كردستان العراق بالصواريخ، بالعمل لتفتيت إيران، أي أن ما حدث في بلوشستان يؤكد ما تكهنه العقل الباطن للشعب العربي الأهوازي، فمن جهة أخرى إن النظام الإيراني يستخدم الصمت النسبي وعدم حراك الجماهير العربية لمصلحته تكتيكياً ليتمكن من قمع سائر المدن والأقاليم الإيرانية، لكن باستمرار الانتفاضة واحتمال تحولها إلى استراتيجية ثورية نكون أمام سباق ماراثون لإسقاط النظام أو تغييره، وفي مثل هذه الحال سيلتحق العرب بمسارها بعد استنزاف القوى العسكرية القامعة، وهذا ما حدث في ثورة 1979 إذ كان العرب من الشعوب الأخيرة التي التحقت بتلك الثورة، ونحن نعرف مدى الطاقة الثورية لدى الشعب الأهوازي ودوره الحاسم في إسقاط النظام الملكي، وإذا خرج هذا المارد من القمقم سيلعب دوراً أساسياً في هذه الانتفاضة وهو الذي كان الأكثر حراكاً بين الشعوب الإيرانية خلال العقد الماضي ومتظاهراً دوماً في الشوارع، مرة باسم الهوية الوطنية ومرة باسم حقوق العمال والفلاحين.
وعزف علي خامنئي في كلمته الأخيرة على وتر “تفتيت” إيران ليثير الذعر بين الفرس من مشاركة الشعوب غير الفارسية في هذه الانتفاضة وتبعه في ذلك بعض المحسوبين على المعارضة الإيرانية غير أن هذه الدعاية الرخيصة لن تثمر شيئاً واتحاد الشعوب سيستمر ضد النظام الشوفيني الشمولي.
خامنئي الحاجز الأهم
في مقالة سابقة اعتبرت عدم نضوج الظروف الموضوعية والخصائص السلوكية للمرشد الأعلى علي خامنئي وتعنته من أهم الحواجز أمام أي تغيير في إيران.
حالياً وعلى رغم نضوج تلك الظروف غير أننا نشهد تعنت خامنئي في كلمته الأخيرة خلال مشاركته في الاستعراض العسكري وبعد مرور أكثر من أسبوعين من عمر الانتفاضة، فلم نشهد أي تنازل منه ولن نشهد ذلك في المستقبل، بل يتوهم خامنئي بأنه نائب الإمام المهدي ويختلف في سلوكه مع الشاه السابق أمام خصومه وأنه سيحارب حتى يقتل، لذا يبدو لي أن مسار التغيير في إيران سيكون دامياً وشاقاً وطويلاً إثر اعتقاد النخبة الحاكمة باتباع عقيدة “النصر بالرعب” مهما كان الثمن، اللهم إلا إذا التحقت فئات مؤثرة في المجتمع الإيراني كالعمال، بخاصة عمال شركة النفط في الأهواز، والطبقات المسحوقة بالمسار التحولي، أي خنق النظام سياسياً واقتصادياً.
وانتعشت العائلة المالكة السابقة واللاجئة في الخارج واستعادت آمالها لإقامة النظام الملكي في إيران، غير أن الانتفاضة الأخيرة أثبتت أن أساس تسريب شعار “رضا شاه روحت شاه”، التحية لروحك يا شاه رضا، في التظاهرات السابقة وفي بعض المدن الفارسية لم تكن إلا خطة أمنية إيرانية لتخويف الشعوب الإيرانية من عودة الملكية إلى البلاد، وأخذت بعض المواقع والقنوات الفارسية الموالية للملكية في الخارج تنشر ذلك بشكل واسع غير أننا لم نسمع هذا الشعار في الانتفاضة الأخيرة بل حدث عكس ذلك وهتف طلاب الجامعات والجماهير خارج الجامعات في طهران وجيلان والأهواز وأقاليم أخرى بشعار “مرك بر ستمكر جه شاه باشه جه رهبر”، أي “الموت للظالم إن كان شاهاً أو مرشداً”.
وكان لانتفاضة النساء، إذا صح التعبير، انعكاس دولي غير مسبوق قياساً بالانتفاضات الأخرى في إيران بما فيها انطلاق تظاهرات في نحو 150 مدينة بالعالم، من نيوزيلندا وأستراليا وكوريا الجنوبية إلى أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية. واللافت في الأمر أن الجالية الفارسية في بعض هذه المدن تسامحت مع رفع أعلام أقاليم كردستان والأهواز وأذربيجان وبلوشستان إلى جانب العلم الإيراني وهي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ نضال الجاليات الإيرانية في الخارج وتؤكد مدى ضرورة كسب الشعوب غير الفارسية للنضال ضد الحكم الشمولي الديني في إيران.
تعيش إيران ومنذ ثورة الدستور (1906 – 1909) صراعاً غير منقطع بين الحداثة والتقليد وتقع حرية المرأة وحقوقها المتكافئة مع الرجل في صلب هذه الحداثة، وعلى رغم انتصار أحد الاثنين على الآخر في فترات مختلفة إلا أن الانتصار النهائي لم يسجل لأي منهما ويبدو أننا نقترب من اللحظة التي سينتصر فيها المعسكر الحداثي على خصمه التاريخي.
اندبندت عربي