في إحاطتها أخيراً أمام مجلس الأمن، كشفت ممثلة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، ما تحفّظت عن ذكره في السابق، وشخّصت واقع الحال على نحوٍ استعادت من خلاله ثقة من استفزّته إحاطاتها السابقة التي حاولت فيها أن تخفّف من مرارة ما هو ماثل، وأن توصل رسالة تفاؤل إلى المجتمع الدولي، ملوّحة بإمكانية إصلاح الأمور، وتحقيق ما يطمح العراقيون إلى تحقيقه.
في هذه المرّة، تخلت بلاسخارت عن لغتها الدبلوماسية تلك إلى حدٍّ ما، ووضعت النقاط على الحروف، وإن أغضبت بمسلكها هذا الزعامات السياسية، وكذا الحيتان الكبار الذين لم تبرّئ واحداً منهم، وبل وضعتهم في سويةٍ واحدة، وصارحتهم بأنّهم جميعاً غارقون في لعبة الفساد المستشري، وأنّهم يجرّون البلاد إلى صراع ممتد ومهلك، وحكمت بانعدام الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأيّ تطوّر مقبل، وانعدام الأمل لدى الناس.
وعندما تفقد بلاسخارت، هي الأخرى، الأمل في إمكانية إصلاح الأوضاع، حتى لو وضع ذلك تدريجياً، فهذا يعني أنّها تبرئ ذمّتها، ما قد يتطوّر إليه الحال، خصوصاً أنّه ليس أمامها سوى بضعة أشهر للبقاء في بغداد، وهي بذلك تلقي بالكرة في ملعب المجتمع الدولي الذي بدا، إلى عهد قريب، منشغلاً بقضايا، بالنسبة إليه، أهم وأكبر، غير عابئٍ بما يمكن أن تصير إليه الأوضاع في العراق. لكنّ الحال يبدو أنّه قد تغير بعد حرب أوكرانيا، إذ أصبح العالم كله يقيم على صفيح ساخن ينذر بالكثير. وشرعت معظم الدول، وخصوصاً التي تكاد النار أن تقترب منها بإعادة النظر في أولوياتها، وتقدّمت مسألة الحصول على الطاقة على غيرها من المسائل. وها نحن نشهد تصاعد صور عطش الأميركيين، والغرب عموماً، إلى النفط الذي تجاوز كلّ التقديرات السابقة، حتى تلك التقديرات التي أشار إليها الباحث الأميركي، إيان رتليدج، في كتابه اللافت “العطش إلى النفط”. وتكشف أحدث التقارير أنّ الأميركيين يواجهون اليوم معضلة الحفاظ على وصول النفط إلى الغرب من منابعه، وانخفاض مخزون نفط الطوارئ الأميركي إلى مستوى لم يسبق له مثيل منذ أكثر من سبعين عاماً. كذلك فإنّ مشاهد إطفاء الأنوار في عاصمة النور باريس، ووقوف طوابير طويلة من السيارات أمام محطّات الوقود في أكثر من عاصمة أوروبية عكست حاجة هذه البلدان إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتركيز اهتمامها مجدّداً على بلدان النفط، ومنها العراق طبعاً. وقد زاد من حمّى الركض وراء الوقود قرار “أوبك +” أخيراً خفض الإنتاج، الذي سبّب “خيبة أمل” لدى واشنطن التي اعتادت فرض وصايتها على الدول النفطية وإجبارها على اتخاذ سياسات متوافقة مع رغباتها في مجال النفط.
تواصل الزعامات السياسية في العراق مسعاها لإعادة إنتاج “العملية السياسية”، بما يضمن تقاسم الغنائم وتوزيع الحصص فيما بينها
هذا كلّه يعني أنّ إحاطة بلاسخارت لم تجئ من فراغ، بل جاءت معبّرة عن حاجة دولية، أميركية على الأخص، لضمان استقرار أوضاع العراق على نحوٍ يتيح ضمان تدفّق نفطه إلى الغرب من دون عراقيل، وهو أمر تعرف أميركا قبل غيرها أن الطبقة السياسية الحاكمة اليوم والمشدودة إلى إيران، والتي حوّلت العراق إلى دولة فاشلة، تسودها توتّرات وأعمال عنف على مدار الساعة، لا يمكن أن تنهض بما هو مطلوب منها، وليس هناك من يفكّر في أنّ الأمور يمكن أن تتحسّن، وأن يسود الأمن فيها إذا ما استمرّت هذه الطبقة في السيطرة على مقدّرات البلاد والهيمنة على قرارها.
أدركت بلاسخارت كلّ هذه الحقائق، ووضعتها أمام أنظار مجلس الأمن، بهدف إيجاد حلول لإنهاء معاناة العراقيين وإنقاذهم مما هم فيه، لكنّ اللافت هنا أنّ أحداً من الزعامات السياسية أو الحيتان الكبار لم يستجب لملاحظاتها، وهم في غمرة سعيهم المحموم لإعادة إنتاج “العملية السياسية” الماثلة، وكأنّ الأمر لا يعنيهم، وقد واصلوا اجتماعاتهم الماراثونية لاقتسام الغنيمة وتوزيع الحصص بينهم في المرحلة الجديدة التي ستدرّ عليهم مزيداً من الأرباح بعدما تجاوزت عائدات النفط عشرة مليارات دولار شهرياً. وهذا زاد من حدّة التنافس على شراء المقاعد الوزارية والدرجات الخاصة التي تفيض بالرزق الحرام على شاغليها.
وسط هذه التداعيات المثيرة، يظلّ الرهان على الزمن سيد الموقف، إذ يتوقع المراقبون حدوث تطوّرات أكثر إثارة في نهاية العام أو بداية العام الجديد، لكنّ سؤال العراقيين الكبير يظل قائماً: متى سيحدُث التغيير وعلى أيّ الأسس؟
دعونا ننتظر إذاً.
العربي الجديد