مئوية مسجد باريس الكبير: صرح بناه المغاربة يحتفي به الفرنسيون والجزائريون

مئوية مسجد باريس الكبير: صرح بناه المغاربة يحتفي به الفرنسيون والجزائريون

باريس- يشارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تزييف الذاكرة، وهذه المرة ليس ضد الجزائر، ولكن لفائدتها من خلال نسبة المسجد الكبير في باريس إليها بدل نسبته إلى المغرب واستضافة من يمثله في الاحتفال بالذكرى المئوية لوضع الحجر الأول لهذا المسجد.

ويقول مراقبون إن نسبة ماكرون المسجد إلى الجزائريين، على عكس التاريخ، قد يكون ثمنا لرغبته في إقامة علاقة قوية مع الجزائر على خلفية قضية الغاز وسعي فرنسا لتأمين اتفاقيات طويلة المدى وبأسعار تفاضلية لتجنب الأزمة التي سيخلفها تراجع إمدادات الغاز الروسي في أوروبا.

وأشار هؤلاء إلى أنه في الوقت الذي تظهر فيه الخلافات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا، كان من الأفضل لماكرون لو لم يشارك في حفل جزائري ينبني على مصادرة الذاكرة.

وترجع ملكية مسجد باريس إلى جمعية الأحباس (الأوقاف) والأماكن المقدسة التي تأسست في الرباط سنة 1917 تحت رعاية السلطان مولاي يوسف الذي أمر ببدء الأعمال سنة 1922، وكلف بذلك ممثله هوبرت ليوتي. وافتتح المسجد بعد أربع سنوات في يوليو 1926.

وكان الهدف منه تكريم 100 ألف مقاتل من المسلمين الذين ماتوا من أجل فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، ولئن كان عدد منهم جزائريين فإنهم لم يكونوا كلهم كذلك.

وقد أرسل ليوتي شخصيا رسالة إلى السلطان مولاي يوسف، يوم إطلاق العمل، تذكّر اليوم بأصل المعْلم. وجاء في هذه الرسالة: “عندما نطقت باسم جلالتك الشريف، استقبله الجمهور بحماس شديد. وقد أعطى ضربة البداية الصدر الأعظم المقري (الوزير الأول الحاجب) ثم من شخصيات تنتمي إلى جنسيات مسلمة مختلفة”.

وكان قدور بن غبريت ذو الأصل الجزائري أول إمام للمسجد بعد حصوله على الجنسية الفرنسية. وقد مكنته دراسته في جامعة القرويين بفاس والوظائف المختلفة التي شغلها من أن يكون مقرّبا من السلطان مولاي يوسف وكانت سببا في تعيينه. ويبرز التصميم المغربي بكل جلاء في مسجد باريس. وكان تشييد المعْلم على يد حرفيين مغاربة استُقدموا من مدينة فاس، كما تشهد بذلك فسيفساء الجلّيز الموجودة فيه.

ومنذ ذلك الحين، تعدّدت محاولات التلاعب بالنظم الأساسية لجمعية الأحباس. وكانت هذه المساعي كلها تهدف إلى إعادة كتابة تاريخ مكان العبادة هذا، من أجل إخفاء جذوره المغربية. وبدأت المناورات سنة 1954 مع الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير للداخلية.

ورأى هذا الوزير الاشتراكي أن مسجد باريس أصبح بمرور الزمن “موقعا متميزا للحركة الوطنية المغربية” ومقرّا لحركة موالية للملك المنفي محمد الخامس. وهكذا تقرر تغيير إدارته وتشجيع توجه ذي منحى “علماني وجمهوري”.

وكان تعيين رئيس الوزراء الفرنسي وقتها غي موليه للجزائري الفرنسي حمزة بوبكر إماما للجامع سنة 1957، لفترة استمرت حتى سنة 1982، بمثابة نقطة تحول لمسجد باريس.

وتضاعفت مزاعم الدولة الجزائرية، كما تضاعفت محاولات تغيير هوية المسجد وتغييب انتمائه المغربي، وكان من بين تلك المحاولات تعديل الأنظمة القانونية لجمعية الأحباس، وهو ما شكل المرحلة الأولى من عملية إعادة كتابة التاريخ واستيلاء الجزائر على المسجد.

وكتب الوزير المفوض كلود لوبل في 1962 في مذكرة موجهة إلى الدولة الفرنسية أن عودة الظهور في الجزائر العاصمة لمكتب مزعوم لجمعية الأحباس والأماكن المقدسة، الذي صُنع من لا شيء لهذا الغرض، “يدخل في سياق إجراءات الطوارئ”.

وعمدت السلطات إلى جعل الأعضاء غير الجزائريين أقلية في مكتب الأحباس، لتقوية نفوذ الجزائر والتمهيد لتسليمها مهمة إدارته. وفي 1982 انكشفت حقيقة هذه الخطة بكل وضوح من خلال اتفاق أبرم بين حمزة بوبكر والحكومة الجزائرية.

وبعد فترة انتقالية تولى خلالها اثنان من المقربين من جبهة التحرير الوطني منصب الإمامة، جاء دور دليل ابن حمزة بوبكر، الذي تصدى إعلاميا لأحداث “العشرية السوداء” في الجزائر ليدافع عن رواية السلطات لما يجري على الأرض خاصة في ظل شهادات وتقارير كانت في غير صالحها.

ودليل بوبكر نفسه هو الذي كان وراء تكريس الهيمنة الجزائرية على هذا المسجد. وفي نهاية 2015 بدأت الجزائر بوضع إجراءات تهدف إلى وضع مسجد باريس تحت الإشراف الحصري لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية.

العرب