على غرار كل الأنظمة الشمولية التي رفعت شعار الدفاع عن الشعوب والأمم المستضعفة أو المسحوقة أو المظلومة أو المستغلة، والصفات هنا تكثر انطلاقاً من المفاهيم التي تتبناها هذه الأنظمة، لم يخرج النظام الإيراني عن هذا السياق، بخاصة ما جاء في مقدمة دستوره الذي أقر باستفتاء شعبي عام 1980 بأنه يلتزم سياسة الدفاع عن الشعوب المظلومة، بحيث يشير بشكل واضح إلى ذلك بالقول “وبالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإن الدستور يعد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة إلى توسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) {سورة الأنبياء، الآية 92} ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم”.
وانطلاقاً من هذا التأسيس الدستوري انفتح النظام المنبثق من ثورة الشعب الإيراني على كل حركات التحرر العالمية، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو الجنوبية أو الحركات اليسارية الأوروبية وباتت طهران “فندقاً” لاستقبال قيادات هذه الجماعات، فكنت ترى فيها اليساريين الإسبان وثوار الساندينيس مروراً بحركات تحرير إريتريا والصحراء الغربية، وصولاً إلى كل جماعات الإسلام السياسي المتفرعة من جماعة الإخوان المسلمين من شرق آسيا إلى شمال أفريقيا، فضلاً عن رعاية خاصة لساحتين رئيستين هما الساحة العراقية عززت أهميتها الحرب التي نشبت بين البلدين والساحة الأفغانية، بخاصة بعد الاحتلال السوفياتي لهذا البلد، وما يشكلانه من تحد ومصدر تهديد استراتيجي، في حين شكلت القضية الفلسطينية المرتكز الأساس لهذه الرؤية في إطار الصراع الأيديولوجي الذي رسم معالمه المؤسس وزعيم الثورة الخميني.
هذا التبني الشمولي للدفاع عن الشعوب المستضعفة الذي برز على رأسه محمد منتظري نجل الشيخ حسين علي منتظري الذي شغل في تلك المرحلة موقع نائب قائد الثورة كان المحرك والدافع لإنشاء “إدارة حركات التحرر” العالمية، وأحد إدارة حرس الثورة الإسلامية، وانسجاماً مع الرؤية الأيديولوجية للمؤسس، وقد تولى مسؤولية قياداتها مهدي هاشمي، شقيق صهر منتظري والمقرب منه بحيث باتت مهمة هذه الإدارة تصدير المفاهيم الثورية والعمل على دعم هذه الجماعات ومساعدتها في إحداث التغيير السياسي الذي تريده في بلدانها.
بعد استبعاد مهدي هاشمي وإخراجه من المشهد السياسي والعمل الثوري بإعدامه بتهمة “الخيانة”، أو تشكيل مراكز قوى “الطابور الخامس” لتخريب الثورة وأهدافها، انتقلت مسؤولية التعامل مع حركات التحرر العالمية إلى وزارة الخارجية، مما كشف عن وجود توجه جديد لدى النظام والثورة والقوى الممسكة بالقرار، لفتح صفحة جديدة من التعامل مع الساحات الخارجية، سواء الدول أو الجماعات المعارضة، وأن السياسة الجديدة التي كانت الدافع وراء هذه الخطوة هي العمل من أجل بناء علاقة مع هذه الجماعات بحيث لا تتعارض مع المصالح الاستراتيجية للنظام وأن تكون خاضعة للشروط والمصالح الإيرانية في أي تحرك قد تقوم به داخل بلدانها، أي تحويل الدعم المفتوح الذي كانت تحظى به وتحصل عليه إلى دعم مقنن في إطار المصالح الإيرانية وبما يخدمها.
ولعل هذه الاستراتيجية كانت السبب وراء عدم قدرة قيادة النظام حينها على تحمل وجود مهدي هاشمي في الصورة نتيجة التعارض الواضح بين رؤيته لهذه العلاقة والرؤية التي يسعى النظام إلى تكريسها مستقبلاً، بخاصة أنه اتهم بالمسؤولية عن فضح الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين إلى طهران وعقد صفقة “إيران كونترا”، وهو تعارض يعتبر انتقالاً من مفهوم “تصدير الثورة” إلى مفهوم “توظيف” الجماعات بما يخدم مصالح النظام الإيراني.
القول إن النظام الإيراني كان على غرار الأنظمة الشمولية، بخاصة التجربة السوفياتية، ينطلق من أن النظام الإيراني كان ينظر ولا يزال إلى العلاقة مع هذه الجماعات من منطلق “المصلحة الاستراتيجية” التي تسمح له بالإغداق عليها بالمساعدات والتمويل المفتوح واعتبارها استثماراً يعزز موقع إيران ودورها على الساحتين الإقليمية والدولية في حين أنه أسقط من اعتباراته الوضع الداخلي وما يتطلبه من نهوض وتنمية اقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية قادرة على فهم المصلحة الاستراتيجية ودعمها. فلم يعد الداخل الإيراني أولوية “استراتيجية” انسجاماً مع الشعارات التي رفعت أيام الثورة على النظام الملكي السابق وما فيها من وعود بالقضاء على الفساد والفقر والحرمان.
ويبدو أن السياق الذي قامت عليه “الحكومة الإسلامية” في إيران، بحسب التوصيف المعتمد في مقدمة الدستور، على أنقاض النظام الملكي، لا تبتعد كثيراً من السياقات التي حكمت الاتحاد السوفياتي باختصار المجتمع في بعد واحد يعتمد القراءة الواحدة التي يمثلها الحزب الحاكم سوفياتياً والمؤسسة الدينية إيرانياً، على رغم التعددية التي تميزت بها هذه المجتمعات من إثنيات أو قوميات أو تعددية دينية وثقافية ومذهبية، وكأن النظامين اعتمدا السنن التاريخية نفسها عندما وضعت مسائل مثل تعزيز الجانب العسكري وامتلاك ترسانة عسكرية كبيرة واستخدامها من أجل دعم استراتيجيتها التوسعية في مناطق نفوذها خارج حدودها بناء على عقيدة وأيديولوجية تقوم في الظاهر على مواجهة الاستكبار والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
هذه السياسات، أي تغليب الجانب العسكري وبناء القدرات العسكرية والدعم الواسع والكبير للقوى والأحزاب والأنظمة التي تدور في فلك المصالح الاستراتيجية لم تترافق مع تنمية داخلية ثقافية واقتصادية واجتماعية تكون قادرة على مواكبة هذه السياسات، الأمر الذي أسهم في إحداث انقسام عمودي داخل مجتمعاتها بين غالبية رافضة لهذه السياسات وأقلية غلبت مصالح السلطة ونفوذها ومصالحها. فانتهى الأمر إلى عجز الحزب الشيوعي عن الصمود أمام حركة التغيير، فانهار وانهارت معه المنظومة السوفياتية في جميع أنحاء العالم، وليس في الداخل وتفكيك الاتحاد.
في المقابل الإيراني فإن الأصوات ارتفعت في كثير من المحطات الاعتراضية، سواء الشعبية أو المنظمة والمعبرة عن قوى سياسية معارضة في الداخل أو الخارج رافضة بوضوح لسياسات النظام الإسلامية التي تقدم الدعم بجميع أنواعه المالية والعسكرية والاقتصادية للقوى التابعة أو الموالية أو التابعة لها في الإقليم على حساب مصالح الشعب وحياته اليومية، بخاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعانيها نتيجة العقوبات الدولية المفروضة على إيران بسبب سياسات النظام على الساحة الدولية والتهديد الذي يشكله للاستقرار الدولي والأمن الإقليمي، بما يملكه من طموحات نووية وبرنامج صاروخي باليستي، إلى جانب الأذرع التي تخدم رؤيته الاستراتيجية ومصالحها.
اندبندت عربي