ثورة نساء إيران سابقة تاريخية. بزخمها وحجمها. أكبر الحشود الشعبية مشت خلفها. أطلقتها نساء الأكراد المعروفات بنسويتهن، وبالتهميش المنظّم لقوميتهن، فانضمت إلى طليعتها بقية الإيرانيات الشابات. وفي جماهيرها نساء ورجال من طبقات ومذاهب وأجيال وقوميات مختلفة. بل خرجت إلى العلن مواقف من نخبة رجال في صلب النظام. مثل علي لاريجاني، الرئيس السابق للبرلمان الإيراني، الذي احتجّ على ممارسات الشرطة الإيرانية ضد المتظاهرات والمتظاهرين. وقد دعا السلطات الإيرانية إلى مراجعة قانون إلزامية الحجاب، وإلى سحب يد “الباسيج” (تابع للحرس الثوري) من “عِبء التشجيع” على الحجاب. فيما زميله، مصطفى تاج زاده، نائب وزير الداخلية في عهد محمد خاتمي، والمحسوب على الجناح الإصلاحي، فقد خُتِم ملف “التحقيق” معه، الآن، بعد اندلاع ثورة النساء، بعقوبة خمس سنوات سجن بتهمة “المؤامرة على أمن البلاد، ونشر أخبار كاذبة عن النظام”. هذا ما وصل إلينا من أنباء عن الاضطراب الذي أحدثته ثورة النساء الإيرانيات داخل “النخبة” الحاكمة. والأرجح أنها شحيحة أمام طرق النظام المختلفة لحجب بقيتها.
ولا تشبه ثورة نساء إيران غيرها من نظيراتها. ليست سعياً للسلطة، وكوتا نسائية من أجل وزارة أو نيابة. ليست صالونات ولوبيينغ التغزّل بالنظام وعرض الخدمات والمواهب والشهادات على ذوي السلطة من أجل “إعلاء شأن النساء ومشاركتهن السياسية”. هنا “المشاركة” النسائية تأتي من تحت، من القلب، من الداخل، وتجرّ قضيتها إلى بقية “القطاعات”، وبنوع من العصف الذي يهزّ الكيان الشخصي لكل فرد، لكل جماعةٍ “محلية”، لكل إثنيةٍ من الإثنيات المضطهدة والمحرومة حقوقها الثقافية والتنموية.
المعتادون النظر إلى الأرباح السلطوية، من نوع “هل تسقط الجمهورية الإسلامية بهذه الثورة، أم لا؟” والذين يكرّرون ما حفظناه عن ظهر قلب، بأن هذه الثورة النسائية ليست مؤطَّرة، ليست قيادات أو قائداً بطلاً كاريزماتيكياً، أو لا تملك برنامجاً سياسياً… وبالتالي هي مرشّحة، كغيرها من الانتفاضات السابقة عليها، لتتلقّى الردّ الدموي للنظام، الذي لن يترك خلفه غبْرة واحدة من غَبارات “أعمال الشغب”… فقوة هذه الثورة لا تكْمن في كل هذه المواصفات الجاهزة المطلوبة، بل في “ضعفها”، في قطعة قماش توضَع غصباً على الرأس. هل يوجد شيء أكثر هزالاً من قطعة القماش هذه؟ ومع ذلك، هي استطاعت أن تخلط المجالات. أخرجت الحجاب من البيت إلى الشارع. قالت إن النقاش حوله لم يَعُد يحتمل تحريماً ولا صمتاً، ولا قوانين وعقوبات.
بمعنى آخر، تخلّت النساء الإيرانيات عن التحايل على قطعة القماش هذه. تقصرها من هنا، تنزلها قليلاً من هناك، تصحبها بغرّة على الجبين… لعلها تطرّي قلوب “شرطة الأخلاق”. ولكن عبثاً. هذه الشرطة توحَّشت في الآونة الأخيرة، مع الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي، فكانت الثورة على الحجاب، بمثابة الثورة على الجمهورية الإسلامية نفسها. وتعمل في ميدانها المباشر، أي الميدان الثقافي، الأقوى من القمع ومن الردّ على هذا القمع.
ثمّة ميلٌ غامض حيناً، بائن أحياناً، بأن ثورة نساء إيران هي ضد الحجاب وحسب
أن تكون ثورة ثقافية، يعني أنها أدخلت إدراكاً جديداً في وعي المستمعين إلى نبضات قلبها. سلطة جديدة ناعمة، تفصيلية وسحيقة، تقود العقول نحو سلوك وقيم جديديْن. نحو عالم آخر، هو ملْكهن البديهي، الذي استحوذ عليه الملالي. وامتلكوا بذلك قدرةً وثيقة على تقرير مصير النساء باحتكارهم قوانين الأحوال الشخصية، التي لم يلغها الشاه أصلاً، رغم إجراءاته الحداثية. كما لم يلغ شرطته السرية، “السافاك”. فكانت غنيمَتا الحرب بيد الملالي، أصحاب السلطة الجديدة بعد الثورة الإسلامية: غنيمة التحكّم بمصير النساء، عبر قوانين أحوال شخصية استطاعوا أن يدخلوا إليها كل الإضافات “الإسلامية” المعروفة. والغنيمة الثانية، شرطة “السافاك” التي سمّت نفسها جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكر، شرطة سرّية وعلنية، تتحكّم برِقاب الاثنين، الرجال والنساء، وتقرّر واجباتهم وسُبل الإذعان لها، تحت طائلة عقوبات وسجون وإقامة جبرية واغتيال وألوان من المنع أو الحرمان، إلخ.
ورمزية خلع الحجاب وحرقه لا تقتصر على ذلك. تكلمت النساء الثائرات عن “أخلاق خبيثة” يسترشد بها الملالي: يرسلون بناتهن وأبناءهن إلى الخارج، الغربي طبعاً، بأموال الشعب الإيراني المسروق، حيث يعيث هؤلاء سفوراً وسكراً وعرْبدة وبَطَراً. تكلمن أيضاً عن الفساد، الذي تفاقمت نسبته، ورجال عضلات وثروات جديدة و”حرس ثوري” يغتني، وأصحاب ملايين من بين قياداته. وكله معطوفٌ على أزمة اقتصادية خانقة، بطالة، تضخّم، انغلاق السوق، وتصاعد الوحشية البوليسية. يدركه الشباب خصوصاً، هم الذين يتقنون أجْدد مبتكرات التواصل المتعوْلم.
ثم تلك ردّة فعل النظام. ردّة فعل لا تُعدّ مرّاتها، صارت مألوفة. وقوامها الثابتة، من أن الحاصل الآن هو مؤامرة صهيونية – أميركية، من أن الإعلام الغربي الموجّه يموّلها، وأن عملاء للمخابرات الغربية يديرونها. ومنهم، زوجان فرنسيان في عمر الأجداد كانا يتسوَّحان في إيران منذ شهر مايو/ أيار الماضي. وإذا بقناة “العالم” (وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية)، تتذكّرهما اليوم، وتذيع شريطاً للزوجة، السيدة سيسيل كوهلر، “تعترف” فيه بأنها “عميلة للاستخبارات الفرنسية”، وبأنها قدمت إلى إيران “من أجل تهيئة ظروف الثورة وإسقاط النظام الإيراني”. ينقص من هذه المناورة الحكي عن “الذين تموّلهم السفارات”، لتكتمل حلقة الردّ البافْلوفي. وكذلك شرائط “الاعتذار من سماحة السيد”، من نقد أو مجرَّد تسجيل لحقيقة على الأرض. أو شرائط “الانشقاق” الموجّه، من مجموعة تهدّد مقام “حزب الله” الحاكم (“انشقاق” من لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ، بعد قرار الحزب وقف التحقيق بمسؤولياته).
أربعون سنة مع عهود “إصلاحية” حاولت ولم تنَل غير الإقامة الجبرية أو الإعدام أو المنفى أو الإقالة المقنّعة
بخصوص الإعلام الغربي الداعم ثورة نساء إيران، والذي “تقف خلفه المخابرات الغربية”، ثمّة تضامن طبعاً، محدود. وجلّه من نساء مواطنات، فنانات، كاتبات، مجتمع مدني، حقوق إنسان. وبعض المقالات التي يكتبها إيرانيون منفيون، وتنشرها صحافة رصينة، ومقابلات على الشاشة، إلخ. لكن أيضاً، ثمّة ميلٌ غامض حيناً، بائن أحياناً، بأن ثورة نساء إيران هي ضد الحجاب وحسب. فيكون الاستنتاج البديهي، في زيادة شرّ الحجاب، وبأنه يجب الاستمرار بمحاربته في ديارنا، ومنعه قانوناً، في كذا أو كيت من الأمكنة العامة، أو حتى كل الأمكنة. وإلى ما هنالك من نغمة مقترنة بالإسلاموفوبيا، ومن أهم روافدها الدعوة إلى منع الحجاب، أو في أحوالٍ أقل سوءاً، اضطهاد صاحبته، أو منعها من السكن، أو العمل، أو أيٍّ من أوجه الاندماج في المجتمعات التي استقبلتها كمهاجرة، فالذي يحصل الآن في إيران لا يشبه غيره من انتفاضات، نسوية كانت أو مطلبية، أو سياسية بحتة، إلا، وبحجم أقل، في بلدة الباغوز السورية. وكانت هذه البلدة تحت سيطرة الدولة الإسلامية العابرة، قد فرضت على نسائها ارتداء النقاب الأسود الكلّي، تحت طائلة عقوبات وحشية. ومنذ أربع سنوات، في أولى لحظات هزيمة “داعش” في هذه البلدة، خرجت نساؤها في هَيْصة وفرح، ينْزعن النقاب عن وجوههن. أمر يشبهه، مع فرق بالعمر المديد و”المنهجية”، يحصل الآن في إيران، وينطلق من تجربة فريدة: ثورة بقيادة النساء، ابنة عصرها، وابنة بيئتها في آن واحد. تعرف ما يجول في العالم، بفضل الشبكة رغم التضييق عليها، وربما أيضاً بفضل مهاجريها… تواجه نظاماً ليس ابن عصره إلا بالسلاح والصواريخ والنووي، وكل الباقي يستحيل له العيش بغير القتل أو الاعتقال أو التعذيب. أربعون سنة على هذا المنوال، مع عهود “إصلاحية” حاولت ولم تنَل غير الإقامة الجبرية أو الإعدام أو المنفى أو الإقالة المقنّعة… تقود الثورة ضده نساء، لا مرشّحات وزارات ولا نيابات، وفي هذا العصر بالذات… فهذا لعمري، من التجارب الفذّة، الجديدة، التي ستظهر نتائجها تباعاً، شيئاً فشيئاً، بوتيرة النساء البطيئة، الدؤوبة، العميقة…
العربي الجديد