الوقائع المريبة في اختفاء 2.5 مليار دولار!

الوقائع المريبة في اختفاء 2.5 مليار دولار!

كَشفَ الصراعُ على المناصب، لاسيما تلك التي توفر الاستثمارات الكبرى في المال العام، عن سرقة منظمة لمبلغ قدره 3.7 تريليون دينار عراقي (ما يقارب 2.5 مليار دولار أمريكي)، من أموال الامانات الضريبية المودعة لدى مصرف الرافدين لحساب هيئة الضرائب العامة، خلال أقل من سنة واحدة!
وقد كُشفت هذه الفضيحة، وهي واحدة من فضائح مالية كثيرة، حين قرر مجلس النواب العراقي إنهاء تكليف وزير المالية وكالة، ليتبين لاحقا أن للإقالة علاقة مباشرة بكتاب أرسلته وزارة المالية قبل يوم واحد فقط، إلى مجلس النواب/ اللجنة المالية، مفاده أنّ مبالغ مجموعها 3.7 ترليون دينار عراقي «استحوذت» عليها خمس شركات دون أن تذهب إلى أصحاب حق استرداد الأمانات الضريبية الحقيقيين!
وتسرد الوثائقُ والمعلومات الوقائع الآتية:
ـ في 26 شباط/ فبراير 2017 أصدر رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي، حينها، قرارا بتكليف ديوان الرقابة المالية بالتدقيق في جميع معاملات إعادة مبالغ الأمانات الجمركية والضريبية قبل صرفها.
ـ وفي 13 تموز/ يوليو 2021، أرسل رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، كتابا إلى وزارة المالية يقترح فيه بأن تقوم هيئة الضرائب العامة وحدها بالتدقيق في عمليات الصرف وإبعاد ديوان الرقابة المالية من هذا التدقيق!
ـ في 27 تموز/ يوليو 2021 أرسل ديوان الرقابة المالية كتابا إلى مكتب رئيس مجلس الوزراء يطلب فيه الرأي بخصوص الاستمرار في عملية التدقيق أو الأخذ بمقترح رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب، مع التأكيد على أن الديوان «يؤيد مقترح اللجنة»!
ـ في 28 تموز/ يوليو 2021 تأسست شركتان، باسم شخص واحد، وهو نفسه الذي يمتلك شركة ثالثة باسمه تأسست في 6 تموز/ يوليو 2021، ومن الواضح أنها تأسست لغرض تنفيذ السرقة! وقد اقتسم هذا الشخص المبلغ المسروق مع شخص ثان يمتلك شركتين أخريين (والأمر المؤكد أنهما مجرد واجهة للسارقين الحقيقيين)!
ـ في 1 آب/ أغسطس 2021 أصدر مكتب رئيس مجلس الوزراء كتابا غير مسوغ يؤيد فيه مقترح رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب، بأن يتخلى ديوان الرقابة المالية عن مهمة التدقيق!
ـ في 3 آب/ أغسطس 2021 وجه رئيس اللجنة المالية كتابا ثانيا إلى وزارة المالية مطالبا بتنحية ديوان الرقابة المالية عن التدقيق!
ـ في 4 آب/ أغسطس 2021 صدر قرار بتعيين مدير عام جديد لهيئة الضرائب العامة، ومن المعروف أن هكذا منصب لا بد له من ترشيح فاعل سياسي!
ـ في 10 آب/ أغسطس أرسلت هيئة الضرائب العامة كتابا إلى وزارة المالية تؤكد فيه أنها ستقوم وحدها بالتدقيق في معاملات إعادة مبالغ الأمانات دون تدخل ديوان الرقابة المالية!
ـ في 26 آب/ 2021 أصدر وزير المالية كتابا إلى هيئة الضرائب العامة بأن تتولى بمفردها عملية التدقيق!
ـ في 31 آب/ أغسطس 2021 أرسلت هيئة النزاهة كتابا إلى هيئة الضرائب العامة حول وجود شكوك في صرف أحد الصكوك/ الشيكات الخاصة بالأمانات، وبدلا من أن تقوم هيئة النزاهة بإيقاف عملية الصرف، او التحقيق في ذلك، قالت «بالنص» إنها لا تطلب إيقاف الصرف استنادا إلى أن هيئة الضرائب العامة قد قالت في كتابها الذي أرسلته إلى هيئة النزاهة بعدم وجود ضرر في المال العام!
ـ في 9 أيلول/ سبتمبر 2021 صدر أول صك/ شيك من صكوك السرقة الكبرى هذه، وعلى مدى 11 شهرا تقريبا صُرف 247 صكا/ شيكا بمبلغ 3.7 ترليون دينار عراقي، وصدر آخرها في 11 آب/ أغسطس 2022!

الفساد في العراق ليس فساد أفراد، بل هو فساد بنيوي، وجميع سلطات الدولة ومؤسساتها شركاء متضامنون في هذا الفساد، من مجلس النواب الى مجلس الوزراء إلى الهيئة العامة للضرائب إلى هيئة النزاهة إلى ديوان الرقابة المالية

ـ في آذار/ مارس 2022 تغيّر مدير عام هيئة الضرائب العامة مرة أخرى (وهذا يعني أن عملية السرقة الكبرى قد حصلت في عهدة مديرين وليس مديرا واحدا)، من دون ان نعرف هل جاء من الفاعل السياسي نفسه الذي رشح الأول أم انه مرشح فاعل سياسي آخر!
ـ في 10 نيسان/ أبريل 2022 تولى رئيس اللجنة المالية السابق في مجلس النواب وصاحب مقترح إزاحة ديوان الرقابة المالية من عملية التدقيق، والمختص بالهندسة الميكانيكية، منصب المستشار المالي والاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء!
ـ في 16 آب/ أغسطس 2022 قدم وزير المالية علي عبد الأمير علاوي استقالته، وقد ورد في نص استقالته النص الآتي: «تعمل شبكات سرية واسعة من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة. هذه الشبكات محمية من قبل الأحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون»!
ـ في 21 آب/ أغسطس 2022 صدر كتاب عن القضاء (محكمة استئناف بغداد/ الكرخ) معنون إلى وزارة المالية يشير إلى وجود «حالات فساد في عملية صرف الأمانات الجمركية والضريبية» ولذلك طالب بوقف صرفها! لكن المحكمة لم تقم بأي إجراءات للتحقيق في هذه الواقعة، بدليل أنه لم تصدر أوامر إلقاء قبض على أحد، كما أن كل كتب الاستقدام، وليس القاء القبض، قد ظهرت بعد تكشف الفضيحة وليس قبلها!
ـ في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 صدر كتاب عن رئيس مجلس الوزراء العراقي الى هيئة النزاهة الاتحادية يوجه فيه «بإجراء التحقيق بالمعلومات والتصريحات المتضمنة وجود مخالفات في عملية صرف الأمانات الضريبية والجمركية»!
ـ في 12 تشرين الأول/ أكتوبر وجه وزير المالية، وكالةً، طلبا الى رئيس مجلس الوزراء من أجل إعفائه من مهامه كوزير مالية وكالة، وقد أشار فيه إلى أن «السرقة كانت واضحة المعالم بصورة مطلقة»! وأن قرار مجلس النواب بإنهاء تكليفه انما يصب في مصلحة «من استولى على المبلغ ومن أصدر لهم الصكوك وأذونات الصرف»، فضلا عن أن عددا من «كبار قادة البلد» قد نصحوه بترك الوزارة لما وجدوه، كما قال: «من مخططات وجهود عدة جهات التقت مصالحها على إيقاف اجراءاتي في وزارة المالية بأسرع وقت»!
ـ في 18 تشرين الأول/ أكتوبر صرّح السيد رئيس مجلس الوزراء بتصريح صادم بأن موضوع السرقة «لا يخص الحكومة، بل دائرة من دوائر وزارة المالية»! وأن القضاء قد شرع في التحقيقات منذ شهور وبكل هدوء، لكن البعض عرف أن المساءلة ستصل اليه، فحاول أن يثير ضجة، ويستغل بعض الظروف لخلق الفوضى والتغطية على الفاسدين الحقيقيين»! لكن رئيس الوزراء لم يقل لنا لماذا تأخر في إصدار أمره لهيئة النزاهة بالتحقيق إلى ما بعد اكتشاف الفضيحة!
ـ في 19 تشرين الأول/ أكتوبر أصدر وزير المالية المستقيل علي عبد الأمير علاوي بيانا يوضح فيه أنه كان قد أصدر أمرا وزاريا في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 الى هيئة الضرائب العامة بعدم صرف طلبات استرداد الأمانات قبل استحصال موافقة الوزير! لكن هيئة الضرائب لم تلتزم بذلك بل قامت بالاشتراك مع مصرف الرافدين بصرف المبالغ «دون أن يكون لوزارة المالية أي تدخل في هذه الممارسات الخطيرة»!
ـ في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 أرسل البنك المركزي العراقي كتابا إلى المصارف كافة، يطلب فيها الحسابات المصرفية للشركات الخمس التي قامت بالاستيلاء على هذه الأموال، والأشخاص الذين تولوا عملية صرف الصكوك/ الشيكات، أي بعد أكثر من شهرين من التحقيقات المفترض للقضاء في الجريمة!
كل ما تقدم من وقائع «مريبة» يؤكد ما كنا نقول دائما، أن الفساد في العراق ليس فساد أفراد، بل هو فساد بنيوي، وجميع سلطات الدولة ومؤسساتها شركاء متضامنون في هذا الفساد، من مجلس النواب الى مجلس الوزراء إلى الهيئة العامة للضرائب إلى هيئة النزاهة إلى ديوان الرقابة المالية إلى البنك المركزي العراقي إلى مسجل الشركات إلى القضاء نفسه. وأن مؤسسات الدولة قد تحولت إلى إقطاعيات للفاعلين السياسيين، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يتصرفون فيها كما يشاؤون لأنهم محصنون بحصانه من ورائهم، وهو ما سمح بالاستيلاء على 2.5 مليار دولار، دون أن تحاول أي جهة منع هذه السرقة أو إيقافها، والأهم من ذلك، أن مخططي ومنفذي هذه السرقة الكبرى لايزالون طلقاء، وفي مناصبهم الحساسة وقادرين على التغطية على الجريمة، كما حدث قبل هذا!

القدس العربي