ربما تنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا بإحداث تغير جيوسياسي مهم في منطقة آسيا الوسطى، التي تقع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي الروسي المباشر .
وتعاني هذه الدول من الفقر والتخلف رغم أنها دول غنية بالثروات الطبيعية، خاصة النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والذهب والعديد من المعادن التي تؤثر في مسار القرار السياسي العالمي حالياً.
ويرى محللون أن موسكو تضع يدها على ثروات آسيا الوسطى عبر ثلاث أليات رئيسية، وهي القواعد العسكرية الروسية العديدة التي زرعتها في المنطقة، والاتفاقات الأمنية مع الأنظمة الحاكمة التي تتيح لموسكو التدخل متى شاءت لخدمة مصالحها. وثانياً، ربط صادرات النفط والغاز والمعادن في منطقة آسيا الوسطى بالشركات والموانئ الروسية، حيث إن اتفاقات ترسيم الحدود التي عُقدت بعد الحرب العالمية الثانية لم تمنح دول آسيا الوسطى إطلالة على البحر الأسود. وثالثاً ربط التجارة في هذه الدول بروسيا وشركاتها ومصالحها الاستراتيجية، وبالتالي إفقارها وتحويل الشباب تلقائياً إلى عمالة رخيصة في روسيا، وأصبحت عائلاتهم تلقائياً تعتمد على تحويلاتهم المالية التي تتدفق عليهم بالروبل.
وحتى الآن، تتخذ هذه الدول مواقف رافضة للحرب على أوكرانيا رغم أنها تتفادى إغضاب روسيا وتراقب مسار الحرب بحذر شديد. وحسب تحليل لخبير الدراسات الاستراتيجية في مركز “جورج سي مارشال” للدراسات في برلين، البروفسور غريغوري غليسوف، فإن موسكو، مع اشتداد وطأة العقوبات الغربية على روسيا وخسارتها السوق الأوروبي، تتجه شرقاً إلى الصين ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى للتعويض التجاري والاقتصادي.
ويرى البروفسور غليسوف أن موسكو تسعى مع بكين لإنشاء منطقة تجارة حرة في فضاء يورو آسيا، يجرى التداول فيها بالروبل واليوان، لفك حصار الدولار عن موسكو وتقليل هيمنته على التجارة والتسويات المالية وفوترة التجارة العالمية. وبالتالي، تثار المخاوف في دول آسيا الوسطى من مخاطر الوقوع في شراك الصراع بين واشنطن وتحالف بكين موسكو مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، التي ربما تضعها في مرمى العقوبات الثانوية الأميركية.
تتخذ هذه الدول مواقف رافضة للحرب على أوكرانيا رغم أنها تتفادى إغضاب روسيا وتراقب مسار الحرب بحذر شديد
وتستهدف موسكو عبر استراتيجية الفضاء التجاري استخدام دول آسيا الوسطى في الحصول على الصرف الأجنبي والتحويلات المالية، وربما استغلال البنوك المركزية والبنوك التجارية في المراسلة وأنظمة الدفع وتمويل التجارة عبر البنوك التجارية، في حال طال أمد الحرب والعقوبات، وربما لاحقاً فرض الروبل المشفر على بنوكها المركزية.
من هذا المنطلق، تسعى دول آسيا الوسطى إلى الحفاظ على التوازن الخطر في علاقاتها مع موسكو في هذه الفترة الرمادية من تاريخ “النظام العالمي”.
في ذات الوقت، تعمل دول آسيا الوسطى على تقوية علاقاتها مع واشنطن ودول أوروبا الغربية، على أمل حمايتها في المستقبل من الأطماع الجغرافية الروسية في استعادة الفضاء الجغرافي للإمبراطورية السوفييتية. ودول آسيا الوسطى الخمسة هي كل من كازاخستان وأوزبكستان، وتركمنستان، وقرغيزستان وطاجكستان.
وتعد كازاخستان أكثر دول آسيا الوسطى المهددة بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، لأن لها حدوداً جغرافية طويلة مع روسيا، كما أن بها جالية روسية في الشمال على الحدود الروسية، وكذلك تمر جل صادراتها من النفط عبر الموانئ الروسية، وبالتالي تقع مباشرة تحت السيطرة الروسية. ولكن رغم مخاطر الحرب على دول آسيا الوسطى، فإنها تسعى لاستغلالها لصالحها.
على صعيد الطاقة، دول آسيا الوسطى تفتح في الوقت الراهن محادثات مع بروكسل وتعرض عليها المساعدة بتعويض جزء من الطاقة الروسية، وتعرض على الشركات الغربية موقعها الجغرافي لتوفير مقار للشركات الغربية الهاربة من روسيا.
في هذا الصدد، يقول تحليل في نشرة “أويل برايس” الأميركية إن الشركات الأجنبية الهاربة من روسيا بسبب العقوبات المالية والاقتصادية ترغب في الانتقال إلى كازاخستان، التي تتمتع بالعمالة الرخيصة، والقريبة من السوقين الصينية والهندية.
وكان رئيس الوزراء الكازاخستاني، علي خان إسماعيلوف، قد قال، في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إن الحكومة الكازاخستانية تسعى لاستقطاب نحو 300 شركة أجنبية كبيرة أغلقت أعمالها التجارية في روسيا. وحسب النشرة، أعربت 56 شركة عن رغبتها في الانتقال إلى كازاخستان، وقد انتقل بعضها بالفعل. وقال إسماعيلوف: “اتخذت بعض الشركات بالفعل قرارات إيجابية ويمكن القول إنها نقلت مكاتبها”.
ومن بين الشركات التي نقلت أعمالها إلى كازاخستان، شركة ماريو بيني الأسترالية ـ اليابانية التي تعمل في تنجيم الحديد وشركة “فورت سكيور” الأميركية.
من جانبها، ذكرت صحيفة كوميرسانت الاقتصادية الروسية أن شركة “إل جي” الكورية الجنوبية تفكر هي الأخرى في الانتقال من روسيا إلى كازاخستان، وتخطط الآن لإغلاق مصنعها بالقرب من موسكو وتحويل الإنتاج إلى آسيا الوسطى .
على صعيد الطاقة، تمثل دول آسيا الوسطى الغنية بالطاقة والمعادن النفيسة واليورانيوم محطة رئيسية في مجرى الحصار الاقتصادي الغربي على روسيا.
في هذا الشأن، يقول تقرير لمركز كارنيجي الأميركي للدراسات إن قطاع النفط والغاز يمثل أكثر من 40 في المائة من عائدات الدولة الكازاخستانية، و80 في المائة من صادراتها النفطية.
وتمر هذه الصادرات عبر الأراضي الروسية وتنقل إلى الأسواق العالمية عبر خط أنابيب بحر قزوين (CPC). ولكن أزمة كازاخستان أن خط الأنابيب الناقل نفطها تسيطر عليه روسيا وتساهم فيه بنسبة 31%. وعلى الرغم من أن هناك طرق تصدير أخرى للنفط الكازاخستاني عبر ميناء باكو، أو عبر خط أنابيب إلى الصين، أوعن طريق السكك الحديدية إلى أوزبكستان، لكنها عالية الكلفة مقارنة بكلفة النقل عبر الأنابيب.
وتراقب موسكو بدقة عمليات تصدير النفط الكازاخستاني بوسيلة غير أنابيب بحر قزوين التي تسيطر عليها، لأن موسكو تستخدم خط الأنابيب للضغط على صادرات النفط الكازاخستاني والتأكد من عدم وصوله إلى دول الاتحاد الأوروبي إلا بموافقتها. وتبلغ صادرات كازاخستان نحو مليون برميل يومياً.
وكانت موسكو قد علقت صادرات النفط الكازاخستاني إلى الأسواق الأوروبية مرتين خلال العام الجاري، في يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز، بحجة مشاكل فنية، ولكن محللون يرون أن وقف النفط الكازاخستاني تم بعناية من قبل موسكو وضمن استراتيجية “سلاح الطاقة” الذي تستخدمه ضد دول الاتحاد الأوروبي.
ولا يبدو أن صادرات النفط هي نقطة الضعف الوحيدة التي تستغلها موسكو للهيمنة على القرار الكازاخستاني، وإنما هنالك أسلحة أخرى من بينها سلاح الواردات الغذائية التي تستوردها كازاخستان من روسيا، وعلى رأسها زيت الطهي والسكر والحليب البتروكيماويات والحديد والأسمدة وقطع غيار السيارات المستوردة. وتمثل حصة روسيا من التجارة الخارجية الكازاخستانية نحو 50%، بينما يمر أكثر من نصف التجارة الواردة إلى كازاخستان عبر أراضي روسيا.
على صعيد الدور الذي يمكن أن تلعبه تركمنستان الغنية بالغاز الطبيعي في حل أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا، يقول تحليل في نشرة “ذا دبلومات” التي تصدر في سنغافورة، إن تركمانستان تمتلك كميات كبيرة من الغاز يمكن أن تمد أوروبا في هذه الفترة الحرجة من أزمة الطاقة، ولكن تطوير هذا الغاز وتمريره إلى أوروبا يواجه عقبات روسية.
وبينما تمكنت أذربيجان من تزويد سوق الغاز الطبيعي الأوروبي عبر ممر الغاز الجنوبي (SGC)، رغم احتياطياتها الضئيلة مقارنةً بتركمانستان التي تملك رابع أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم، فإن تركمنستان تواجه اعتراضات تحالف موسكو طهران على خطط تصدير الغاز إلى أوروبا.
وتمثل عائدات تصدير الغاز الطبيعي ما يقرب من نصف إجمالي عائدات التصدير لتركمانستان، ويمكنها في حالة تطوير مواردها من الغاز وتمريره إلى أوروبا أن تصبح دولة غنية جدا، غير أن المنافسة الإقليمية في بحر قزوين حدت من قدرتها على استغلال ثروة الغاز، كما أن هيمنة موسكو وشركاتها على القرار التركماني مثلت عقبة كبيرة أمام بناء خط أنابيب لنقل الغاز التركماني إلى سوق الطاقة الأوروبية.
ويعتمد احتمال تدفق الغاز التركماني إلى أسواق الطاقة الأوروبية على موافقة موسكو وطهران على خط أنابيب الغاز عبر قزوين (TCGP) الذي اقترحته الولايات المتحدة في العام 1996. ويقوم المقترح على نقل الغاز التركماني عبر أنبوب TCGP تحت بحر قزوين إلى شبكة أنابيب SGC في أوروبا. ولكن كلاً من روسيا وإيران اعترضتا بشدة على الخط، مشيرتين إلى مخاوف بيئية. ولكن يرى محللون أن الأسباب الأكثر ترجيحًا لاعتراض الدولتين هي أن الخط يمنع البلدين من الحصول على عائدات النقل، كما أنهما يركزان على تأمين إمدادات الغاز الخاصة بهما إلى أوروبا.
العربي الجديد