تعددت الرئاسات والمشكلة واحدة: ممنوع بقوة السلاح ومشروعه والعصبيات ومصالح أمراء الطوائف والقوى الخارجية المحتاجة إلى “ساحة”، بناء دولة حقيقية. وتنوعت بدايات الولايات الرئاسية ونهايتها، ولبنان عالق بلا نهاية لأزماته. ولاية الرئيس الثالث عشر، ميشال عون، بدأت عملياً قبل أن تبدأ رسمياً في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، وانتهت واقعياً قبل أن تنتهي دستورياً منتصف ليل 31 أكتوبر 2022، لكن الجنرال عون وأنصاره يتصرفون على أساس أن الولاية مستمرة من خارج القصر الجمهوري. وكما احتاج انتخاب الرجل إلى عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي الذي فرضه “حزب الله” من أجل مرشحه، كذلك يتطلب حلم التوريث، شغوراً رئاسياً، على أمل أن تتغير حسابات الخارج وتتعب القوى الداخلية، بحيث يصل الوريث إلى القصر الذي ينتظر من دون أن يملأه أحد.
في ربع الساعة الأخير من ولاية الرئيس السابق أمين الجميل، ليل 23 سبتمبر (أيلول) 1988، من دون انتخاب خلف له، جرى تعيين الجنرال عون رئيساً لحكومة عسكرية سداسية تضم أعضاء المجلس العسكري، على رغم وجود حكومة قائمة برئاسة الدكتور سليم الحص. استقال الوزراء المعينون المسلمون الثلاثة فأكمل عون العمل بحكومة من وزيرين مسيحيين فاقدة الميثاقية. وبدلاً من أن يدير الشغور بالحد الممكن ويحضر الأجواء لانتخاب رئيس، سد الطريق على أي انتخاب إن لم يكن هو الرئيس العتيد. أخطأ في شن حربين: “حرب التحرير” بعد أن قال له ياسر عرفات والعراقيون إن هناك قراراً دولياً بإنهاء نظام الرئيس حافظ الأسد. وحرب “الإلغاء” بعد أن سمع من الوسطاء أن السوريين مستعدون لترئيسه إذا أنهى الميليشيات وخصوصاً “القوات اللبنانية“. وأخطأ في قراءة التحولات الإقليمية والدولية مرتين: مرة حين لم يقدر حجم القرار العربي والدولي وراء “اتفاق الطائف” فسارع إلى حل المجلس النيابي للحيلولة دون انتخاب رئيس، ورفض الاعتراف بالرئيس رينيه معوض ثم بالرئيس إلياس الهراوي. ومرة عندما غزا صدام حسين الكويت فقرر الرئيس جورج بوش إخراجه منها بالقوة وانضم الرئيس حافظ الأسد إلى التحالف الدولي بقيادة أميركا. وهكذا جاء الضوء الأخضر لدمشق بإنهاء ما سمي “التمرد العوني” بالقوة، فلجأ عون إلى السفارة الفرنسية ثم إلى المنفى في فرنسا.
في عام 2005 عاد الجنرال عون من المنفى ضمن تفاهم مع دمشق عبر وسطاء لبنانيين بشروط له وعليه.
وفي عام 2006 طلب منه المسؤول الأميركي عن الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية ديفيد ولش التفاهم على اسم لرئاسة الجمهورية، ففهم أنه ليس الرئيس. كان خياره الحاسم هو تسريع المفاوضات الدائرة مع “حزب الله” وصولاً إلى توقيع “تفاهم مار مخايل” في عام 2006. وكان التحالف مع “حزب الله” هو الوحيد الذي تمسك به إلى النهاية. في “مؤتمر الدوحة” عام 2008، بعد شغور رئاسي وعملية عسكرية لـ”حزب الله” في بيروت وجبل لبنان كان الخيار، ضد رغبة عون، هو انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً، لكن “حزب الله” حافظ على وعده لعون، بحيث منع على مدى سنتين ونصف السنة انتخاب رئيس. كان قادراً على التعطيل لا على ضمان الأكثرية لانتخاب عون، فجاء العون من رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري ورئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع، كل منهما لأسبابه.
في الرئاسة لم يمارس السلطة بصفته “رئيس الدولة ورمز الوطن” بحسب الدستور، بل كرئيس لفريق وحليف لـ”حزب الله”. بدلاً من أن يجمع، اختلف مع الحريري وجعجع ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية، وكان أصلاً على خلاف مع نبيه بري. وبدلاً من أن يقوي علاقات لبنان العربية والدولية، دافع عن سلاح “حزب الله” وسياسات إيران وسوريا، مما قاد البلد إلى قطيعة عربية ودولية. وعلى ساعة الولاية اكتمل الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي في لبنان، لكن رئيس الجمهورية ظل مصراً على أنه ضحية “حرب كونية” لإفشاله، وأن كل الخراب الذي حدث هو من مسؤولية الآخرين. لم يتردد لحظة في تطويع مواقفه وسياساته لترتيب خلافة صهره جبران باسيل في رئاسة الجمهورية، بعد أن أورثه رئاسة “التيار الوطني الحر”.
والواقع أن أي رئيس جمهورية لم يستطع اختيار خلفه، باستثناء الرئيس فؤاد شهاب الذي تمكن من اختيار شارل حلو الذي عاد وانقلب على الشهابية. فكل رئيس جاء عكس الرئيس الذي سبقه. والعم والصهر لا يزالان يحلمان. و”الداماد”، أي صهر السلطان العثماني، كان يمارس الكثير من النفوذ، لكن من المستحيل أن يصبح سلطاناً. وليس من السهل على كثيرين تعلم الدرس. والخلاصة معبرة: عام 1990 ترك عون بالاضطرار، لبنان لسوريا. عام 2022 ترك، بالخيار، البلد لإيران.
اندبندت عربي