ليست مصادفة بلا مغزى صريح أن الذكرى الـ34 لـ«إعلان الاستقلال» الفلسطيني مرّت يوم أمس في غمرة مزيد من أعمال العنف الوحشية التي ترتكبها قطعان المستوطنين في غالبية أراضي فلسطين المحتلة، مترافقة مع جولات جديدة من ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي الفاشية التي تبدأ من التصفيات الفردية والإعدامات الميدانية حتى بحقّ أطفال، وتمرّ بالمداهمات والاعتقالات وفرض الحصار على المخيمات والقرى والبلدات والمدن واقتحام بعضها وإعادة احتلالها، ولا تنتهي عند تهديم البيوت وتخريب الممتلكات. وهذه مصادفة تذكّر أيضاً بتنصل الاحتلال من كل مواثيقه وتنكره لكل المقررات الأممية، وكراهية السلام مقابل التعبد للعنف والسلاح.
والعملية التي شهدتها مستوطنة أرئيل يوم أمس، وأسفرت عن استشهاد شاب فلسطيني ومقتل ثلاثة مستوطنين وجرح آخرين، تعيد تأكيد عدد من الحقائق الجوهرية التي كانت وتظل ثوابت ناظمة للصراع الفلسطيني مع دولة احتلال واستيطان تنزلق حثيثاً وكل يوم نحو توطيد المكونات العنصرية الأقبح، وترث تباعاً منظومات الأبارتيد التي انقرضت في جنوب أفريقيا ويُعاد بعثها وترسيخها في مختلف مفاصل كيان الاحتلال الصهيوني.
وإلى جانب الحقائق التي تضاعفت على مدى أكثر من 74 سنة أعقبت تأسيس الكيان، ثمة هذه الظاهرة اللافتة التي تشير إلى أن الكيل قد طفح تماماً بالشرائح الشابة من أبناء المجتمع الفلسطيني، سواء داخل مناطق 1948 أو في مختلف الأٍراضي الفلسطينية المحتلة هنا وهناك، بحيث باتت معظم عمليات المقاومة تُنسب إلى الشباب أو حتى الفتية، وتختلف في الطرائق والوسائل لكنها في العموم تتفق على إبراز وعي عال بالصمود والثبات وروحية البقاء والتصدي.
وليس جديداً أن تقع مراكز أبحاث الاحتلال العسكرية والأمنية في حيرة وارتباك وعجز عن تفسير معظم المكونات التي تشكل نسيج توجهات المقاومة لدى الشباب الفلسطيني خاصة، بالنظر إلى أن غالبية هؤلاء لا ينتمون إلى فصائل وتنظيمات وحركات سياسية فلسطينية، وبالتالي يصعب تصنيفهم أو تحجيم أنشطتهم أو حتى التوغل في صفوفهم. وأن يكون انتماؤهم المركزي إلى شعبهم الفلسطيني وحقوقه وإلى تاريخه وجغرافيته ورموزه الوطنية والإنسانية والثقافية في المقام الأول، ثم أن يكون السلاح الأبيض هو إجمالاً أقصى ما يملكون من أدوات المجابهة، فهذه حيثيات فارقة تتجاوز الاعتبارات التقليدية التي يسهل ضبطها، فتربك عدوهم بقدر ما تصلّب عزائمهم.
وليست غائبة عن هذا المشهد الحاشد بالدلالات حقيقة أخرى دامغة مفادها أن توحش قطعان المستوطنين المندمج في وحشية جيش الاحتلال إنما يتفاقم على خلفية صعود اليمين المتطرف والفاشي في قلب الكنيست ذاته، حيث ذروة الأكاذيب بصدد «واحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، وحيث يعجز المجتمع الإسرائيلي عن إيجاد بديل عن رئيس حكومة خاضع للقضاء ومجبر على الركوع أمام أقصى اليمين الديني والصهيوني. وليس بمنأى عن المشهد ذاته أن إصرار فاشي معلن مثل إيتمار بن غفير على تولي حقيبة الأمن الداخلي لا يحرج رعاة دولة الاحتلال في واشنطن ولندن وباريس فقط، بل يلجم ألسنة عربية هرولت نحو التطبيع وارتمت وترتمي في أحضان هذا الكيان الصهيوني، الدموي والقاتل والمتعفن.
القدس العربي