قول الكاتب والأكاديمي بروس بوينو دي مسكيتا: “معرفة الحقيقة نصف الطريق، النصف الآخر والأهم هو ما يمكن أن تفعله حيال هذه المعرفة”.
لا يدل أداؤنا، شعوباً ودولاً على مدى تاريخ طويل حيال خواتيم المنعطفات الكبرى في حياتنا، على الإطلاق بأننا تحركنا وفق “حقيقة ” المتلاعبين في حياتنا، حكاماً كانوا أو محتلين. لو أخذنا القضية الأم، فلسطين، مثلاً، نجد أن بعض أصحاب الدم المراق امتثل لمعايير العدو، الذي نهب البلاد، من دون أن ندري إلى يومنا هذا “الحقيقة” التي مهدت لاتفاقٍ، على الرغم من كل المجازر، وأصبح ضرورة تتزيّن بقبعة “السلام”. ومع ذلك، وجد كثيرون منا ما يكفي من المبررات لإسقاط البحث في الأسباب التي كرّست “سياسة القبول”. ذاك الإخفاق، وإن لم يكن الأول، هو الأخطر في تاريخ أمتنا.
ولعل الربيع العربي خير دليل على ذاك الاستلاب، إذ على الرغم من حجم الاستبداد والفساد الذي تكشف بعد انهيار جدران معتقلنا، لم تتحرر عقولنا من ربقة المنظومة الشيطانية، بل تحول جلها إلى كلاب حراسة، تسم الضحية بربقة العمالة قبل نحرها، من دون أدنى تفكير، وها نحن اليوم نرتكب الرذيلة نفسها. ولكن، على أعتاب البوابة الروسية الأميركية. وآلة القتل الروسية هذه تفترس عمق الجسد السوري، وتجعل من أرضنا العربية ساحة حرب دولية، وما زال بعضهم يعزو هذا الاعتداء إلى ضعف أميركا وسقوط هيبتها، فيما تتحرك أميركا وفق خارطة مصالحها، ولم تكن يوماً “المخلص”، بل دأبت على امتهان القتل، باسم تلك المعايير كأي مستعمر.
يقول بوينو دي مسكيتا “للناس مفهوم ساذج أن الأنظمة الديمقراطية تهتم بتشجيع الديمقراطية، لكن هذا مخالف للحقيقة، لأن الوظيفة الأساسية لقادة الأنظمة الديمقراطية هي تطبيق سياساتٍ، يستفيد منها الناخبون في أوطانهم، وليس في بلد آخر، وبما أن قادة الأنظمة الدكتاتورية يحتاجون إلى استرضاء المقربين إليهم، يدفع قادة البلدان الديمقراطية الطغاة لتلبية طلباتهم”. لذا، على من صدّق مسرحية الاختلاف على بقاء الأسد أن يعي أن سقوط أوراق الشجرة لا قيمة له، بقدر الحفاظ على جذورها متأصلة. إذن، ما هو الوجه الحقيقي لما يبدو شداً وجذباً بين روسيا وأميركا؟
على الرغم من السيطرة التي تدعيها روسيا في الملف السوري، تبدو أميركا مستفيدة من هذا
التورط في ساحةٍ، يستحيل أن تضمن النصر لأحد، مهما كان محترفاً، لأن مكونات القوى التي تعبث فيها قاتلة. ولكن، ما الذي تتوقع أميركا حدوثه من خلال البوابة السورية؟
تحدث وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، قبل سنوات، عن حرب عالمية ثالثة، يتم فيها القضاء على روسيا وإيران والصين، عبر “إحساس زائف بالقوة”. ولو تتبعنا الأداء الإيراني والروسي بأقل تقدير منذ بدء التلاعب في بلاد الربيع العربي، نلاحظ تضخما في إرهاصاتهما المتعلقة بالهيمنة، والتي أصبحت مرضية، بعد إطلاق أيديهما في عدة ملفات عن عمد، فهل يعتبر هذا مؤشراً على دخولهما المصيدة، ولا سيما أن أميركا تتصرّف مثل ثعلب يدعي الموت أمام الطريدة.
من يصر على ضعف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وفشله في التعامل مع الطوفان العربي عليه أن يتنبه إلى أن أميركا ليست مثل سورية الأسد، فأوباما يحكم مجموعة من المؤسسات، وربما المنظمات المرئية منها والمخفية. لذا، فإن الأدعى هو الالتفات إلى من يقف خلفه، أي العقل الذي يرى المنطقة من خلال خارطة ترسم باليد، وعلى الأرض يطبق المراد بالنار والحديد، أما إيران وصبيتها فلاعبون صغار وسط حرب ضروس، كان وجودهم أداة ضرورية لتحويل سورية إلى ميدان قتال.
ومهما ارتكبت روسيا من أخطاء، فهي لاعب دولي محنك في النهاية. لذا، هي لم تدخل سورية إلا بعد أن أيقنت أن الأسد سقط فعلياً، وكذلك الأرض التي هيمن عليها، على الأقل وفق الحدود التي نعرفها. لهذا، ما يبدو لنا اليوم صراعاً بين الدول الكبرى بشأن بشار الأسد، وجوداً ودوراً في سورية ما هو سوى تحريف للأنظار، بعيدا عن الأغراض الحقيقية التي بسببها ربما انزلقت روسيا داخل المستنقع السوري، وإن بدت مسيطرة على الموقف، فنتائج اللعب، مهما كان شكله، لا تحسم من خلال الأوراق المكشوفة، بل القيمة الحقيقية في الأوراق المخفية، والأسد ورقة مكشوفة ساقطة، تاريخ صلاحيتها مرتبط بحدود أغراض روسيا وأميركا على السواء. .. هل تكمن هذه الأغراض فقط في مصالح البلدين المتداولة، أم أن وحوش المستعمر القديم استيقظت؟
يرى المتابع لتطورات الأحداث أن روسيا تحاول أن تتصرف بشكل حرفي، وهي قد تبدو قادرة على استثمار أي متغير، كالهرولة الفرنسية لدك معاقل تنظيم الدولة في سورية، إثر تفجيرات باريس، لكنها تعي تماماً أن الحراك “الحربي” قد يجعل من سورية مقبرة لأحلام موسكو، إن لم تتم إدارة اللعبة بدقة وحذر، ولا سيما أن الحراك السياسي الذي انتشلت روسيا أشلاءه من بين أنقاض السيادة السورية لم تتمكن من بث الروح فيه، وها هو اليوم يحرق على أعتاب قاطرة “الحرب على الإرهاب” التي أيقظت أشباح القراصنة القدماء. لذا، قد يصعب التكهن بعدد البيارق التي ستحلق في سماء سورية، تحت هذه الذريعة، ولكن تضارب مطامعها مع مصالح روسيا قد يخلط الأوراق لصالح طرفٍ، يبدو إلى الآن أنه خارج اللعبة، كيف؟
بدايةً، سواء تنبّه الدب الروسي، أو لم يفعل، إلى الجحيم الذي يمكن أن يدخله من باب سوء التقدير بفعل “الإحساس الزائف بالقوة” الذي تعول عليه أميركا وفق كيسنجر، تبقى سياسة الاحتواء الماكرة التي تلعبها أميركا غير قادرة على ضمان سير الأمور وفق مصالحها، خصوصاً بعد حالة الهرج التي نتجت عن آلة الترهيب، المتنقلة من سيناء إلى باريس ومالي، والقائمة قد تتسع.
قد يبدو لنا أن ورطة الجميع أكبر مما خطط له على الورق، علماً أن ازدحام المسرح قد يكون جزءاً من العرض، لكن الملفت أن إسرائيل أمام هذا الحريق تقف كالقاتل الصامت. لكن، ما الذي تترقبه عن بعد؟
كان كيسنجر قد أشار، منذ سنوات، إلى حرب عالمية ثالثة، تنتهي بحكومة عالميةٍ، تقودها أميركا وإسرائيل. لكن، هل يمكن الوثوق بغياب الثقة الذي يهيمن على العلاقة الإسرائيلية الأميركية، في ظل إدارة أوباما اليوم، أم هو فخ آخر أدخل روسيا في مستنقع أقذر مما يبدو؟ هل التنسيق الروسي المحكم مع إسرائيل بشأن الملف السوري هو من باب ضمان المصالح المشتركة بينهما في تلك الجغرافيا، أم من باب حصول روسيا على دور في المنظومة المفترضة لنظام عالمي جديد، تخشى أن تستبعد منه؟
نهى المصري
صحيفة العربي الجديد