يقول الصحافي الإيراني المعروف محمود شمس الواعظين ما معناه أن هناك ضرورة لإعادة النظر في بنية المجتمع والسلطة بإيران، فمن غير الطبيعي أن تشهد هذه البلاد ثورتين منجزتين، الأولى عام 1906 المعروفة بالمشروطة، والثانية عام 1979 بقيادة السيد الخميني، وأخرى لم تتبلور مع محمد مصدق، ومحاولة استعادة تجربة المشروطة باعتماد الملكية الدستورية عام 1952، وتعيش منذ عقد من الزمن إرهاصات ثورة جديدة قد يطول تبلورها، وذلك خلال قرن واحد من الزمن.
ما يستدعي التوقف عنده أكثر من غيره في كلام شمس الواعظين، وهو المعروف بالحذر في إصدار الأحكام ولا ينجر وراء العاطفة أو الأحاسيس وهيجاناتها، الحديث عن مسار تراكمي للاعتراضات الشعبية ضد سياسات النظام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، التي من الطبيعي أن تؤدي وتنتهي إلى نتائج لن تكون في صالح السلطة القائمة، بل ستكون على حسابها.
هذا الكلام وهذا التقويم لمسار الأحداث التي تشهدها إيران، وبعيداً من الأطراف التي تحاول الركوب على موجة الاعتراضات واستغلال الحراك الشعبي الحاصل واستثماره لصالح مشاريعها الخاصة، فإن شريحة واسعة من الناشطين السياسيين والإعلاميين والمؤثرين في الرأي العام الإيراني بدأت تذهب لتنبي هذا الموقف وهذه القراءة.
وقررت هذه الشريحة الخروج من دائرة الحذر والابتعاد عن حال الترقب والمراقبة، والموقف الوسطي المنتقد لأداء السلطة، وغير المنسجم مع المواقف السياسية لكثير من قوى المعارضة التي ابتعدت في عدائها للنظام إلى الحد الذي باتت فيه على استعداد للتفريط بالمصالح القومية والوطنية.
الانتقال من الوسط إلى التأييد الحذر يكشف عن أن الحراك الشعبي في بعده المطلبي، سواء كان اقتصادياً أم ثقافياً أم اجتماعياً أم في بعده المتعلق بالحريات الشخصية والسياسية والتعبير والرأي، بدأ يأخذ بعداً أكثر تجذراً في المشهد الإيراني، وأن الطريق أمامه بات سالكاً ليفرض إرادته على السلطة والمنظومة الحاكمة، التي ستكون مجبرة على الاعتراف به والتعامل معه والبحث عن قنوات حوار وتفاهم تساعده في استيعاب هذا التحول والتعايش معه، حتى ولو بعد حين، ولن تكون قادرة على الاستمرار بالمكابرة وإنكار الواقع والتحول أو التغيير الحاصل في العلاقة بينها وبين القوى المجتمعية بكل توجهاتها ومستوياتها.
وعلى رغم كل الإجراءات والخطوات القمعيةوالملاحقات والاعتقالات التي تجاوزت 15 ألفاً وأكثر من 350 قتيلاً من صفوف المتظاهرين الشباب، يبدو أن السلطة والمنظومة الحاكمة وأجهزتها الأمنية لم تنجح ولم تستطع التعامل مع توجيهات وتلميحات المرشد غير المباشرة بضرورة التسريع بإنهاء الاعتراضات، أو ما يسميه النظام “أعمال شغب” وإعادة فرض الأمن والاستقرار وإنهاء التجمعات والتظاهرات، مما أجبر المرشد للعودة للتلميح، الذي يقترب من الأمر المباشر، بقدرة النظام على الانتهاء من هذه المهمة في أسرع وأقرب وقت، خصوصاً في خطابه الأخير خلال لقائه مع عدد من أبناء محافظة أصفهان، عندما وصف المتظاهرين ومن يقف وراءهم بأنهم “حقراء كثيراً”، وأنهم “أعجز من يلحقوا الأذى بالنظام، ومن دون شك سيتم إنهاء هذه الأعمال الخبيثة، عندها سيكمل الشعب الإيراني مسيرة التقدم بروحية أكبر وروحية جديدة”.
وأمام استمرار التظاهرات والاحتجاجات، يصر النظام وقياداته السياسية والأمنية والعسكرية على اعتماد سياسة الهرب إلى الأمام وإنكار ما يجري ورفض التعامل مع المطالب التي ترفع في التظاهرات التي تعم غالبية المدن والجغرافيا الإيرانية.
في المقابل لجأ النظام إلى التمييز والتفريق بين الشباب المتظاهرين وغالبية الإيرانيين، ففي الوقت الذي ووصف فيه الشباب بمجموعة من الأراذل والأوباش ومثيري أعمال الشغب الذين تحركهم الغرائز وأيادي أجهزة الاستخبارات الخارجية المعادية للنظام، إضافة إلى جماعات المعارضة في الخارج التي تحاول ركوب هذه الموجة على حساب المصالح الحياتية للإيرانيين، ومن منطلق العداء للنظام الإسلامي ومبادئه وسياسته خدمة لأجندات أجنبية تتآمر على إيران وتستهدف وحدة أراضيها ودورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، اعتبر أن حراك هؤلاء الشباب والتحريض الخارجي لم يستطع تقديم خطاب يدفع الشريحة الأوسع من الإيرانيين بالخروج والانضمام للحراك المطلبي بكل مستوياته، مستدلاً بذلك على فشل المؤامرة التي يتعرض لها النظام.
قد يكون صحيحاً أن الحراك الاحتجاجي لم يتحول إلى حالة شاملة، ولم يستطع كسر حاجز التردد والخوف لدى غالبية الإيرانيين ونقلهم إلى خيار الخروج والتظاهر والاعتراض العلني، إلا أن تفسير النظام وقيادته وأجهزته لهذه الظاهرة يبدو بعيداً من الواقع، إذ تحاول توظيف هذا العزوف لصالح سياساتها القمعية والإجراءات التي تقوم بها في التصدي لحركة الاعتراض.
فالمنظومة الحاكمة ذهبت إلى وهم تفسير انكفاء هذه الشرائح عن المشاركة انطلاقاً من عدم موافقتها على أهداف هذا الحراك ومطالبه، بالتالي اعتبار هذا التصرف يصب في إطار استمرار تأييدها للنظام وسياساته وإجراءاته التي تسعى للحفاظ على استقرار البلاد ووحدة أراضيها في مواجهة مؤامرة التقسيم والانقلاب على النظام وإنجازاته.
وبذلك يكون النظام الإيراني كمن “يدفن رأسه بالرمل” ويحاول عدم رؤية الأمور على حقيقتها، وأنه لم يعد يملك القاعدة الشعبية المؤيدة، حتى تلك التي وقفت معه في الاستحقاقات الدستورية، وآخرها انتخابات رئاسة الجمهورية التي أوصلت إبراهيم رئيسي إلى السلطة التنفيذية.
كما أن الأمور وصلت إلى مستويات من الشك والريبة بهذه المنظومة حتى لدى الشرائح والقوى الإصلاحية والقومية، التي تنظر بعين القلق إلى مستقبل إيران وتماسكها ودورها، بالتالي فضلت الانكفاء والمراقبة لعدم ثقتها بأية محاولة مستبعدة قد تقوم بها هذه المنظومة للتواصل وفتح باب حوار على أساس المصلحة الوطنية، ثم الانقلاب عليها والعودة لسياسة محاصرتها وإقصائها بعد استتباب الأمور والأوضاع وفرض السيطرة من جديد على الشارع والاحتجاجات.
فضلاً عن أن حال الاعتراض والرفض لدى الغالبية من الإيرانيين من خارج دائرة الموالين للنظام الضيقة، تختلف مع الحراك القائم حول آليات الاعتراض والمواجهة، وهي لا تريد أن تقدم للمنظومة ورقة مجانية تسمح لها بالقضاء على أية بارقة أمل للتغيير في ظل عدم وجود مشروع واضح يوفر انتقالاً سليماً لما بعد النظام القائم.
اندبندت عربي