الفريق الوطني الإيراني مقابل المنتخب الأمريكي: لعبة التناقضات الإيرانية

الفريق الوطني الإيراني مقابل المنتخب الأمريكي: لعبة التناقضات الإيرانية

وصل أسلوب تعامل النظام الإيراني – الذي غالباً ما يتسم بالنفاق – مع مباريات “كأس العالم لكرة القدم” هذا العام إلى طريق مسدود مع المباراة بين الفريق الوطني الإيراني والمنتخب الأمريكي. وبغض النظر عن فوز الولايات المتحدة في المباراة، يبدو أن النصر السياسي للجمهورية الإسلامية بعيد المنال.

في الفترة التي سبقت المباراة المشحونة سياسياً بين إيران والولايات المتحدة في بطولة “كأس العالم لكرة القدم”، انقسم الإيرانيون في جميع أنحاء العالم حول كيفية التعامل مع الحدث. فالبعض فضّل إبقاء الرياضة والمنتخب الوطني بعيداً عن السياسة، بينما رفض البعض الآخر دعم منتخب يعتبرونه “فريق الحكومة”. وفي كلتا الحالتين، استمر (أسلوب) تعامل النظام مع البطولة في قطر والمشاعر المرتبطة بها في الوطن عبارة عن مزيج من التكتيكات القاسية ومزاعم التلاعب بالنتائج والتناقضات الأيديولوجية المحرجة.

ولعل أبرز هذه التناقضات تجلت في جهود طهران لتصوير الفريق على أنه قوة وطنية يجب أن يعزى نجاحها إلى الجهود الموحَّدة لجميع المواطنين الإيرانيين؛ وقد أُطلقت هذه الدعاية بالتوازي مع حملة شاملةلاستعداء وتشويه سمعة شرائح كبيرة من السكان ممن يُعتبرون غير داعمين للفريق الرياضي في وقت تهز البلاد أموراً أكثر أهمية. وقد تم تصوير الكثيرين من هؤلاء الناس على أنهم خونة يخدمون أعداء إيران، حتى في الوقت الذي تحاول فيه طهران استخدام البطولة كنقطة التقاء قومية ومصدر إلهاء. وفي الوقت نفسه، كانت المعارضة أكثر جرأة من أي وقت مضى في دحض مزاعم الحكومة بشكل منهجي، بقولها أن دعم المنتخب الوطني لن يفيد النظام الاستبدادي إلا من خلال طمس الحدود الصارمة بين مؤيديه ومعارضيه المحليين.

لكن بعض المبادرات الدعائية جاءت بنتائج عكسية، ومنها رد فعل النظام على فوز المنتخب الإيراني على منتخب ويلز في مباراته الثانية في دور المجموعات. فقد انتشرت الشرطة في الشوارع الرئيسية في طهران وغيرها من المدن الكبرى، مدججة بمعداتها المهيبة لمكافحة الشغب. ومع ذلك، حاولت عناصر الشرطة بث أجواء احتفالية من خلال تشغيل الموسيقى والرقص في شاحناتها. وبالنسبة للكثير من الإيرانيين الذين رأوا هذه المشاهد شخصياً أو على شاشات التلفزيون، بدت تلك المظاهر على الأرجح كعنيفة جداً ومنافقة، مما يسلط الضوء على افتقار النظام إلى المنطق السليم وانفصاله عن أبناء الشعب الذين شاهدوا أعمال العنف الوحشية تمارَس على مدى أسابيع في تلك الشوارع نفسها. ويتجلى النفاق بصورة أكثر عندما يتذكر المرء أن مظاهر الرقص هذه في الأماكن العامة عادة ما تكون غير قانونية في الجمهورية الإسلامية. ولا شك في أن الكثير من الإيرانيين يتذكرون أن الراحل آية الله روح اللهالخميني كان يبرر التناقضات الأيديولوجية المماثلة من خلال الإشارة إلى أنه يتعين على الشعب اللجوء إلى “شرب الخمر وقول الأكاذيب” إذا لزم الأمر للحفاظ على مصالح النظام.

كما أن الأحداث التي وقعت في قطر جذبت الانتباه السلبي أيضاً. فقد أفادت التقارير أن بعض المتفرجين مُنعوا من دخول الملاعب بسبب حملهم شعارات سياسية أو أعلاماً مرتبطة بالاحتجاجات. وفي 27 تشرين الثاني/نوفمبر، نشرت قناة “بي بي سي” الفارسية تقريراً عن ملف صوتي مسرّب زُعم فيه أن نائب قائد ميليشيا “الباسيج” الإيرانية شرح كيف خططت طهران لإبقاء الملاعب القطرية تحت المراقبة من أجل تعقب الناشطين المناهضين للنظام؛ كما ادعى أن “وزارة الإعلام أرسلت إلى قطر قائمة بأسماء المتفرجين الذين لم توافق عليهم الحكومة لإلغاء تذاكرهم. ويقول إن قطر وعدت أيضاً بالتعاون بهذا الشأن”.

وعلى صعيد آخر، أفادت قناة “راديو فردا” الفارسية مؤخراً، والتي تمولها الحكومة الأمريكية أن بعض القراصنة قد سرّبوا رسائل متبادلة بين «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني والمنتخب الوطني لكرة القدم. ووفقاً لهذه التسريبات المزعومة، وعدت إدارة الفريق بالالتزام بأوامر الجهاز الأمني الإيراني وتجنب أي مواقف مزعجة للنظام، سواء أثناء البطولة أو خلال المقابلات مع وسائل الإعلام الفارسية المتواجدة في دول أجنبية. ويُزعم أيضاً أن الوثائق المسربة التي تم اختراقها تظهر أن المسؤولين الأمنيين أوعزوا لأعضاء البرلمان الإيراني بالتخطيط لاتخاذ إجراءات عقابية بحق أي شخص من أعضاء الفريق الذي يشارك في إيماءات مناهضة للنظام تضامناً مع المتظاهرين.

ومن المفارقات، أن النظام الثوري الإيراني كان معروفاً في أيامه الأولى بارتيابه من الرياضة، وخاصة كرة القدم التي وصفها بأنها اختراع غربي مخادع يهدف إلى إرباك المسلمين والتفرقة بينهم عبر تقسيم ولاءاتهم بين دول منفصلة. ولكن هذه السياسة تغيرت بشكل كبير في عهد المرشد الأعلى علي خامنئي، لأسباب متعددة.

أولاً، فقدت أيديولوجية الدولة الكثير من جاذبيتها الشعبية بعد صدمة العقد الأول من عهد الجمهورية الإسلامية، الذي شهد سنوات من الحرب مع العراق وخيبة أمل متزايدة من مزاعم الدولة المثالية. وإزاء هذا التراجع، ردّت القيادة الإيرانية بالنمط المعهود بين الأنظمة الاستبدادية: أي تغيير موقفها تجاه القومية بشكل جذري من خلال وضعها في صميم حملاتها الدعائية، وتوجيه الرأي العام وسلوك الشعب عبر التماهي بين النظام وإيران، وتبرير قمع المعارضين في البلاد باعتبارهم أعداء لإيران.

ثانياً، لم يستطع النظام القائم بعد الحرب أن يقاوم استغلال الفوائد الاقتصادية المربحة للرياضة، وخاصة كرة القدم. فقد تجاهلت الدولة التغيير الأيديولوجي (في عقيدتها) ووضعت مهمة تطوير لعبة كرة القدم على رأس سلم أولوياتها من أجل الحفاظ على سيطرتها على تمويل الفريق وأنشطته. وتم أساساً تسليم إدارة الأندية الرياضية الكبرى في إيران إلى «الحرس الثوري» وأجهزة أمن الدولة، بما يضمن للحكومة المُلكية الحصرية على القطاع الرياضي، ويكفل حياده السياسي عبر حمايته من أي إمكانية استغلال من قبل الأعداء. واليوم، تمتلك عناصر «الحرس الثوري» وتدير مباشرةً أكثر من 90% من الأعمال التجارية لكرة القدم الإيرانية، في حين يرأس القائد السابق لـ «الحرس الثوري»مهدي تاج “اتحاد إيران لكرة القدم”.

وبالمثل، تابعت التغطية الصحفية الإيرانية لمباريات كأس العالم هذا العام وبأغلبية ساحقة، صحيفة “كيهان” الناطقة بلسان خامنئي، فحثت أبناء الشعب على دعم فريقهم الوطني والاعتراف بـ “مؤامرة العدو الخارجي”  (الذي يعمل على) خيانة مشاعرهم الوطنية ومستقبل وطنهم المقدس. كما بذلت كيهان” جهداً كبيراً للحد من حجم المعسكر “غير الداعم” وأهميته، واصفة إياه بجماعة من الساذجين الذين فقدوا كرامتهم واستقلالهم الذاتي لصالح القوى الخارجية. فضلاً عن ذلك، كثّفت الصحيفة حملتها المعادية لإسرائيل لصرف انتباه القرّاء عن الجدل الداخلي وإقناعهم بأن النظام منشغل بتحديات أكثر خطورة من احتجاجات شوارع “بسيطة”. على سبيل المثال، نشرت الصحيفة في عددها الصادر في 28 تشرين الثاني/نوفمبر افتتاحية بعنوان “كأس العالم: معرض لكراهية الأمم تجاه إسرائيل”، حيث ركز المقال على مظاهر “العداء المتزايد بين المسلمين وإسرائيل” التي تخللتها البطولة على ما يفترض. وفي ضوء هذه المشاعر، ادّعى المقال أن الشعار الحقيقي لكأس العالم في قطر كان يجب أن يكون “الحرية لفلسطين”.

تداعيات المباراة مع الفريق الأمريكي

على الرغم من حملة التحريك المتعددة الأوجه المذكورة أعلاه، لم تأتِ مباراة إيران ضد الولايات المتحدة في وقت مناسب للنظام أو للشعب الإيراني. فهذه هي المباراة الأخيرة في دور المجموعات لكلا الفريقين؛ ونظراً لترتيبهما قبل المباراة، شكل الفوز المباشر الطريقة الوحيدة المؤكدة[للتأهل للدور الثاني عن المجموعة الثانية في “كأس العالم“]. وفي الظروف العادية، كان من شأن هذه اللحظة التنافسية المثيرة أن توحّد جميعالمشجعين الإيرانيين في الصلاة بإخلاص من أجل الفوز بالمباراة، في حين كان احتمال إخراج “الشيطان الأكبر” من البطولة بمثابة حلم دعائي للنظام. وبدلاً من ذلك، قاطع ملايين الإيرانيين الفريق على مضض من أجل حماية حركة الاحتجاج الديمقراطية. وفي الوقت الحالي، لجأت الأجهزة الإعلامية للنظام إلى تكتيكات شبيهة بالحرب النفسية، مثل محاولة استعداء مدرب المنتخب الأمريكي من خلال طرح أسئلة متعلقة بالسياسات وغير ذات صلة بالرياضة خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد قبل بدء المباراة (على سبيل المثال، الاستسفسار عن سبب بقاء “الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية” في الخليج العربي).

وبالنسبة إلى رد واشنطن، فقد التزمت إدارة بايدن الصمت بشأن المباراة، في حين نأى المسؤولون في المنتخب الوطني الأمريكي بأنفسهم عن أعمال الاحتجاج الفردية ضد طهران (على سبيل المثال، الجدل الأخير حول المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للفريق الأمريكي والتي غيّرت العلم الإيراني). ومع ذلك، فمن الناحية التاريخية، عادة ما اعتبر صانعو السياسات الأمريكيون المسابقات الرياضية مع إيران بمثابة فرص للدبلوماسية الثقافية، لذلك على الإدارة في واشنطن أن تفكر ملياً فيما إذا كانت ستتعامل مع الفوز الأمريكي وكيف ستقوم بذلك، إذا كانت المباريات الأخرى هي التي ستحدد الدولة التي ستنتقل إلى المرحلة التالية من البطولة.

مهدي خلجي

معهد واشنطن