عندما انتشر خبر وفاة الفتاة الإيرانية مسها أميني، انطلق حراك خجول في الأيام الأولى رفضاً لما حدث وتضامناً مع هذه الفتاة وعائلتها في وجه شرطة الأخلاق وأسلوب تعاملها المزاجي والاستنسابي مع النساء في الممرات العامة والمؤسسات الإدارية. وسرعان ما توسعت حال التضامن لتتحول إلى حراك اعتراضي على النظام وقوانينه وسلطته الدينية والثقافية، رافعاً شعار “المرأة، الحياة، الحرية” والمطالبة بالحقوق الطبيعية في الحريات الشخصية والتعبير والتخلص من الملاحقات التي تقوم بها المنظومة الأمنية، على الأقل في ما يتعلق بالحرية الشخصية من بوابة الحفاظ على الأخلاق العامة في المجتمع، بحسب القراءة الرسمية والتفسير اللذين تقدمهما المؤسسة الرسمية.
ومنذ اللحظات الأولى للحراك، دخل النظام والمنظومة الأخلاقية للسلطة في مسار من التحدي العقائدي والأيديولوجي مع المطالب التي رفعها الشارع، بخاصة في جزئية “الحجاب” وإلزاميته. وهو تحد من الصعب أن ترضخ له السلطة الدينية بسهولة أو تسلم به لما يمثله من تناقض مع الأحكام والمحددات الفقهية والشرعية في الممارسة الدينية، في الأقل بالشكل والمظهر، بعيداً من إمكانية انطباقه مع الجوهر أو عدمها.
إنشاء أداة أو “يد ضاربة” تكون مهمتها ممارسة الرقابة على المجتمع ومتابعة مدى التزامه وتطبيقه للأحكام الدينية والشرعية في حياته اليومية في كل الأديان والمجتمعات يعني أن الجهة التي لجأت إلى هذا التدبير دخلت في مواجهة غير معلنة مع المجتمع عندما اختارت أن تدخل في دائرة حرياته وخياراته الخاصة والشخصية. وفي الحالة الإيرانية تبدو أكثر حضوراً وبروزاً وكانت تنذر بإمكانية الانفجار الذي عجزت منظومة السلطة عن التقاط مؤشراتها منذ بداية اللجوء إلى هذا الإجراء بشكل متشدد، وسيّرت مفارز شرطة “أخلاقية” منذ عام 1982.
الجدل بين ضرورات السلطة الدينية والحرية الاجتماعية أو مبدأ الاختيار أو التخيير “إما شاكراً وإما كفوراً”، لم يبق محصوراً بين هذه السلطة والعامة من الناس المستهدفين بهذه الإجراءات والقوانين، بل انتقل إلى داخل المؤسسة الدينية التي في انقسام حاد وما زال حتى الآن بين مفهوم الفرض والإجبار من ناحية، وبين ضرورة ترك الخيار للفرد في تحديد هوية المظهر والسلوك الذي يريده مع الالتزام بالمعايير العامة للمجتمع. وهذا الجدل داخل المؤسسة الدينية تطور للبحث في حدود السلطة الدينية ودورها وتعاطيها مع المجتمع وهل المطلوب منها “إدخال الناس جميعاً إلى الجنة” تارة بالحوار والإقناع المقرون بمسلكيات وسلوكات تساعد على سوق المجتمع باتجاه هذا الخيار، وتارة أخرى بالقوة والفرض والتدخل في تفاصيل الحياة اليومية، بخاصة بعد غلبة المنهجية الثانية، أي الفرض، مما حوّل الالتزام بالمظهر الخارجي إلى ممارسة “نفاقية” وشكلية باعتبارها شرطاً مفروضاً من خارج الإرادة الشخصية وحرية الاختيار وضرورة لتمرير الحياة العامة التي تمسك السلطة بكل تفاصليها ومفاصلها وقد تمنعها عن جماعة كعقوبة وتقدمها إلى جماعة كامتياز ومكافأة على سلوك.
التعايش الذي مارسه المجتمع الإيراني المتعدد والتعددي في أديانه ومذاهبه وقومياته وثقافاته والتوفيق ما بين ضرورات مساير السلطة وبين حاجاته الخاصة، سمح له هذا التعايش بممارسة أعلى درجات البراغماتية والتحايل إذا جاز التعبير، بخاصة في توصيف السلوك الاجتماعي وذلك من باب التعامل مع الأمر الواقع من دون اللجوء إلى الصدام والتصادم معه.
السلوك التحايلي الاجتماعي في ما يتعلق بجزئية الحجاب الإلزامي والحريات الشخصية كان يقوم على توازن دقيق بين كل خطوة يقوم بها وحسابات أكثر دقة بين المكاسب التي قد يحققها ورد فعل السلطة أو الأجهزة عليها. من هنا كانت العلاقة بين حجم الحجاب وشكله وحدود حجبه أو المساحة التي يشغلها من الرأس، ترتبط بعلاقة طردية مع هالة السلطة واهتمامات منظومة الحكم.
وهذه المعادلة الطردية كانت تقوم كلما كانت السلطة تلجأ إلى الانغماس في معركة تثبيت صلاحياتها والانشغال في التصدي لمصادر التهديد الآتية من جهة الخطاب المختلف عن خطابها، تحديداً في معركتها الواضحة مع التيار الإصلاحي وقوى التغيير غير الانقلابية ومنعهم من التمدد في مفاصل النظام ومؤسسات الدولة والسعي إلى استعادة السيطرة على كل المواقع والمراكز التي خرجت من دائرة نفوذ جماعاتها الموالية، وكلما كان المجتمع يتقدم خطوة على طريق التفلت من القيود التي تفرضها هذه السلطة على سلوكياته ومظهره الخارجي أمام الملأ العام. وهنا بدأت مساحة الحجاب وما يحجب بالانحسار التدريجي والممنهج الذي يعتمد في تسارعه على حجم الانشغال والانغماس اللذين تقوم بهما المنظومة في معركتها على السلطة، إلى الحد الذي كاد أن يتحول إلى أثر بعد عين، في مؤشر إلى حجم الصراع على السلطة داخل المنظومة، وهو صراع دفعها إلى إشاحة النظر عما يحصل في السلوك الاجتماعي من تغييرات في استراتيجية تعتمد مبدأ “الإلهاء” وصرف الاهتمامات الاجتماعية عن صراعات السلطة وإشغالها بتفاصيل لا تشكل تهديداً وجودياً للسلطة والمنظومة وإن كان يربك خطابها الأيديولوجي وصورتها الدينية.
مقتل مهسا أميني الذي كان المسبب فيه محاولة شرطة الأخلاق توجيه رسالة بأن يد نظام الرقابة ما زالت حاضرة وقادرة على فرض إرادة وتوجهات مؤسسة السلطة في تعبيراتها الدينية، نقل الفعل الاجتماعي إلى مرحلته وخطوته الأخيرة التي قام بها متجاوزاً في حجمها وعمقها كل التحركات الفردية أو المنظمة التي سبق أن قامت بها ناشطات نسويات للمطالبة بحرية الحجاب وإنهاء إلزاميته.
الانتقال الاجتماعي لشريحة ليست قليلة من الإيرانيين إلى نزع الحجاب قد تفرض وستفرض على النظام وأجهزته المختصة والمعنية ومعها المؤسسة الدينية، التعامل مع الأمر الواقع من دون الاعتراف الرسمي بهذا المنجز الاجتماعي للنساء، مما يعني أن ما حققه الحراك الاجتماعي الثقافي في موضوع الحجاب لن يدفع النظام إلى إلغاء القوانين المرتبطة بذلك، بل سيعمد إلى توسيع هامش هذه الممارسة وعدم الاعتراف بها رسمياً، بالتالي تكريس معادلة حرية الحجاب مع الإبقاء على قانون إلزاميته والسكوت عن تطبيقه. أما المفارقة في هذا الصراع، فإن المستفيد الأول من النتائج الطبقة الراغبة في التحرر من إلزامية الحجاب ولم تشارك في الحراك المطلبي الذي شهدته الشوارع الإيرانية وما زالت وهي شريحة نسائية واسعة استطاعت تحقيق مكاسب مجانية.
اندبندت عربي