تتوالى العقوبات ضد روسيا من جانب الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية إلى الحد الذي صار فيه كثيرون يتساءلون عما يمكن أن يبقى من عقوبات لم يجر فرضها بعد على موسكو.
وها هي الدول الأوروبية ما كادت تفرغ من إقرارها للحزمة التاسعة من العقوبات ضد روسيا حتى ظهر من يلوح بضرورة التفكير فيما يمكن أن تتضمنه “الحزمة العاشرة”، من قيود وقرارات لم تتوقف منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014.
وكانت “الحزمة التاسعة” من العقوبات نصت على “إلغاء تراخيص بث عدد من القنوات التلفزيونية الروسية، وفي مقدمتها قناة “Russia-1” الإخبارية الرسمية وغيرها من وسائل الإعلام الجماهيرية واسعة الانتشار، مثل قنوات “NTV” و” Mir” و”RenTV”.
ونصت العقوبات أيضاً على تجميد أصول بنكين روسيين، وتوسيع حظر تصدير السلع والتقنيات الأوروبية المستخدمة في صناعة الطيران، بما يشمل محركات الطائرات، وقطع غيار الطائرات المسيرة التي تستوردها روسيا الاتحادية. وذلك إلى جانب فرض الحظر على الاستثمارات في قطاعات التعدين والطاقة بروسيا الاتحادية، فضلاً عن حظر تقديم الخدمات الاستشارية للشركات الروسية، وإقرار سلسلة أخرى من العقوبات تنسحب على نشاط وممتلكات 149 من كبار رجال الدولة ورجال الأعمال، و49 مؤسسة مالية وتجارية روسية.
ما جدوى العقوبات؟
ثمة من يتساءل في موسكو وخارجها عن جدوى ما تفرضه البلدان الغربية من عقوبات ضد روسيا، بعد أن جرى استنفاد كل ما يمكن أن يرد إلى مخيلة “الغادي والرائح” من عقوبات شملت مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، والدوائر المحيطة بفلاديمير بوتين، من دون أن يكون لها تأثير محوري في تحقيق ما ينشده أصحابها، وإن كان منها ما يظل شديد الوطأة، تظل موسكو تعرب صراحة عن أملها في التراجع عنه.
من اللافت في هذا الصدد أن الأمر لا يقتصر على أن هناك من العقوبات المادية والمعنوية ما لا ينال من روسيا ومصالحها، بقدر ما ينال من كثيرين من مصالح ممثلي “الأوليغارشية” الروسية ممن ارتبطت مصالحهم بالدول الغربية التي استقبلتهم بالأحضان، مستفيدة مما جرى تهريبه إليها من أموال، كما أن منها ما لا يعني أي أهمية قانونية، على غرار تلك التي تصدر عن المنظمات الدولية، وكان آخرها ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شأن تجميد ومصادرة الأصول والأموال الخاصة بروسيا لصالح إعادة بناء أوكرانيا، ووضع “آلية دولية للتعويض عن الأضرار أو الخسائر أو الإصابات” الناجمة عن “الأعمال الظالمة” التي ارتكبتها روسيا بحقها، بحسب النص الصادر بهذا الشأن.
“منزوعة الدسم القانوني”
على أن ذلك لا يمكن، وكما أشرنا أعلاه، أن يقلل من “وزن” و”أهمية” هذه القرارات التي ثمة من يعرب في موسكو، وفي إطار التعليق عليها بوصفها قرارات “منزوعة الدسم القانوني”، عن مخاوفه تجاه احتمالات تحول “الكم إلى كيف”، الأمر الذي قد ينذر بما لا تحمد عقباه كما يقولون.
فإلى جانب احتمالات تنفيذ ما لا تستطيعه اليوم الدوائر الغربية، يتوقف مراقبون كثيرون عند “الحلم” الذي يظل يراود القيادة الأوكرانية، ومعها كثيرون آخرون حول “طرد روسيا” من مقعدها الدائم في مجلس الأمن، على رغم كل الضمانات القانونية التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة بهذا الشأن.
وعلى رغم أن المصادر الرسمية الروسية تكتفي في تعليقاتها بهذا الصدد بتأكيداتها عدم جدوى الاستمرار في هذا النهج، الذي أثبتت الأشهر القليلة الماضية سلبياته على حياة المواطن الأوروبي بالدرجة الأولى، بما أسفرت عنه من تبعات ارتفاع نسبة التضخم والبطالة وتدهور الأوضاع الاقتصادية، واختفاء كثير من السلع والخدمات، فإن هناك في الأوساط الغربية من يكابد آلام انتظار تصاعد التذمر والسخط الشعبي بروسيا، تمهيداً لتحقيق “الحلم المأمول”، وانطلاق التظاهرات وربما الثورات ضد النظام القائم، وهو ما يظل يبدو، وبحسب كثير من المؤشرات وقياسات الرأي العام “بعيد المنال”.
“الثورات الملونة”
وذلك ما لا يغيب عن أذهان خصوم بوتين وروسيا في المعسكر الغربي، ممن يقفون وعلى مدى عقود طويلة وراء فكرة “الثورات الملونة” التي “تنفجر” من حين إلى آخر في الفضاء السوفياتي السابق، مثلما حدث في يناير (كانون الثاني) الماضي في كازاخستان، بعد أن كانت أسفرت عن نجاح ملموس في كل من جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزيا في مطلع القرن الحالي.
وثمة من يظل يراوده آمال دفينة في نتائج مماثلة قد تتحقق في روسيا استجابة لرأي أفصح عنه الرئيس الأميركي جو بايدن حين قال إن “هذا الرجل يجب أن يرحل”.
ونقلت وكالة “ريا نوفوستي” الروسية عن مصادر في الاتحاد الأوروبي تصريحاتها حول “أنه ما من دولة واحدة بالاتحاد الأوروبي تقدمت حتى الآن بمقترحات في شأن الحزمة العاشرة من العقوبات ضد روسيا”.
كما كشف رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل عن تأخر الاتفاق على حزمة جديدة من العقوبات، إلى جانب اعترافه بأن الاتحاد الأوروبي قد استنفد بالفعل معظم أدواته للتأثير على روسيا، ويقترب الآن من حد الضغط الاقتصادي.
سد الثغرات
وأضاف، “قد تظهر الحزم التالية في المستقبل، لكنها ستكون على الأرجح على النحو الذي يستهدف سد الثغرات بحزم العقوبات المعتمدة بالفعل وضمان عدم وجود تجاوزات، كما قد تصبح قوائم الأفراد والكيانات جزءاً من مجموعات العقوبات المستقبلية ضد روسيا”.
على رغم مما يقوله الرئيس بوتين حول أن روسيا لم تتأثر كثيراً بهذه العقوبات، فإن ذلك يمكن أن يكون “قولة حق” في بعض جوانبها، تظل تحتاج إلى كثير من الإيضاحات والإضافات التي لا بد من التوقف عندها في هذا الصدد.
فما كان جائزاً ومقبولاً بالأمس في روسيا، لا يمكن قبوله اليوم لأسباب كثيرة، منها ما وقعت فيه القيادات الروسية السابقة من أخطاء تسليمها بضرورة تطويع الاقتصاد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لمقتضيات التكامل مع الاقتصاد الغربي.
وفي هذا الصدد يذكر مراقبون ما ارتكبته القيادة الروسية من أخطاء بلغ بعضها حد الخطايا، إن لم نقل “الخيانة” التي نالت من مواقع روسيا ومكانتها السابقة، وهي التي كانت شغلت موقعاً “معتبراً” في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، يقترب مما تشغله الصين اليوم في عالمنا المعاصر.
خطايا برامج الخصخصة
ويشير هؤلاء، وكنا ولا نزال منهم على مقربة، إلى “خطايا برامج الخصخصة” والمستفيدين منها، بما قيل حول إن ذلك كان “مسماراً يدقونه في نعش الشيوعية”، على حد تصريح أناتولي تشوبايس المسؤول عن برنامج الخصخصة وبيع أصول روسيا وممتلكاتها، وأحد أركان النظام السابق الذي ظل محتفظاً بكثير من مواقعه الحكومية والرسمية، حتى بداية “العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا”، وقبل أن يلوذ بالفرار إلى الخارج من دون “حساب أو عقاب”.
كما أن أحداً لم يحاسب حتى اليوم كثيرين من رموز “الأوليغارشية الروسية” ممن يظلون على مقربة من الأنساق العليا للسلطة، على رغم تورطهم في تهريب “مليارات الدولارات” التي آلت إليهم عن غير حق، إلى الخارج لشراء الأندية الرياضية واليخوت والطائرات والعقارات التي وقعت خلال الفترة الأخيرة فريسة المصادرة والتأميم لصالح إعادة بناء أوكرانيا، وهو ما كان حذر منه بوتين في حينه.
ولعله من المناسب في هذا الصدد، التوقف عند تحول الإعلام الرسمي في الفترة الأخيرة صوب فضح كثير من أوجه القصور التي شابت عديد من سياسات روسيا خلال العقود الماضية، ولا سيما إبان سنوات حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، بما في ذلك ما يتعلق ما وقع من قصور وأخطاء، بما في ذلك تقليص تعداد أفراد القوات المسلحة، والتحول إلى التركيز على “الكماليات والصناعات الخفيفة”.
وإذا كان هناك من يقول تعليقاً على مثل هذا التحول، في البرامج الإخبارية شبه الرسمية، إن الاعتراف بأوجه القصور يقترب من كونه محاولة لامتصاص غضب الشارع الروسي، فإن هناك ما يشير أيضاً إلى اعتباره تراجعاً صوب المراجعة الشاملة للواقع الراهن، بحثاً عن “استراتيجية مغايرة”، تقوم في معظم جوانبها على ضرورة الاعتماد على الذات، في دولة تمتلك عملياً ما يزيد على 30 في المئة من ثروات العالم الطبيعية، ومنها النفط والغاز والمعادن، بما فيها اليورانيوم، إلى جانب المياه العذبة والمنتجات الزراعية التي صارت تكفل لروسيا اليوم موقع الصدارة العالمية في مجال إنتاج الحبوب والغلال.
تجاوز تبعات الحاضر
وذلك ما قد يكون أقصر السبل إلى تجاوز تبعات الحاضر، وما يتناثر على طريق روسيا من عقبات وعراقيل، تستهدف إحكام “العزلة والحصار” حولها، بعد أن اعترفت مصادر إعلامية، ومنها المحسوبة على الكرملين (أولجا سكابييفا مقدمة برنامج 60 دقيقة على شاشة قناة روسيا الإخبارية)، بأن “روسيا تقف عملياً وحدها في مواجهة 50 دولة”، لكن هناك من يقول أيضاً إن ما كان جائزاً في الماضي إبان سنوات “الحصار الحديدي”، لا يمكن أن يكون ممكناً اليوم، بعد أن ذاعت وسائل الاتصال وانتشرت، وهو ما تحاول موسكو الرسمية اليوم مراعاته بتأكيدها على اعتماد التكنولوجيا والابتكارات العصرية، سبيلاً إلى التغيير، بكل ما تجود به قريحة الشباب الواعد ممن تحرص على الترويج له والاهتمام به.
أما عن العزلة الدولية، فثمة من يشير في موسكو وخارجها إلى مواقف أطراف غربية وشرقية أخرى تعلن صراحة عن رفضها للعقوبات، وعدم انحيازها إلى ما تسميه بمحاولات “الابتزاز” الأوكرانية التي تستهدف النيل من مصالح ومواقع الدولة الروسية.
ومن هذه الأطراف تقف المجر ورئيس حكومتها فيكتور أوربان في صدارتها، لأسباب منها ما يمكن إدراجه ضمن “أحلام” استعادة ما فقدته المجر بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، إلى جانب بلدان أخرى دفاعاً عن مصالحها الاقتصادية.
ولعله من غير الممكن أن نغفل في هذا الصدد، ما تتسم به سياسات الصين والهند وبلدان آسيوية أخرى من “تحفظات” تجاه ما تضمره الولايات المتحدة من مخططات وأحلام ومطامع توسعية، تقف في صدارة أركان سياسات “عالم القطب الواحد”.
اندبندت عربي